شرح الحديث الشريف - إتحاف المسلم - الدرس (28-45) : التشفع في حدود اللهلفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
ما الذي ينقذ الشعوب التي تميل ﺇلى التطرف من هذا الضياع, وما الذي يتميز به الدين الإسلامي؟
أيها الأخوة الكرام, دين الله عز وجل دين وسطي, والتطرف دائماً في نقص, التهور نقص, والجبن نقص, والشجاعة بينهما إسراف, والتبذير نقص, والبخل نقص, والاعتدال في الإنفاق وسط بينهما, والفضيلة وسط بين الطرفين, هذه قاعدة.
فأكثر تاريخ الشعوب في تطرف: نحو اليمين, أو نحو اليسار, إلى حقبة قريبة, كان هناك نظامان عالميان؛ نظام يعتمد الفرد, ويسحق المجموع, ونظام يعتمد المجموع, ويسحق الفرد, وكلاهما باطل, والإسلام منهج وسطي, والمنهج الوسطي هو الواقعي, هو الكامل, هو المستمر, والآن أكثر الشعوب تعود إلى الوسط مقهورين؛ لا عن اختيار, ولا عن عبودية, ولكن وجدوا أن التطرف ينتهي إلى طريق مسدود, فلا بد من الوسطية.
إليكم قول المصطفى في وسطية الإسلام :
أيها الأخوة, من أروع ما قال النبي عليه الصلاة والسلام في هذا المنهج المتوسط, الذي يسع الجميع, والذي يقيم التوازن بين الجميع, قال: ((مَثَلُ القَائِم في حُدُودِ اللَّه والْوَاقِع فيها، كَمثل قَومٍ اسْتَهَموا على سَفِينَةٍ، -قوم لهم سفينة, وراكبون في السفينة, فاقتسموا أماكنهم في السفينة, معنى استهموا: أي اقتسموا أماكنهم- فَأَصابَ بَعْضُهم أعْلاهَا، وبعضُهم أَسْفلَهَا، فكان الذي في أَسفلها, إذا استَقَوْا من الماء, مَرُّوا على مَنْ فَوقَهمْ، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا في نَصِيبِنَا خَرقاً, ولَمْ نُؤذِ مَنْ فَوقَنا؟ -يعني الافتراض: أن الماء عذب, فيها ماء عذب, هم بحاجة إلى الماء, فبدلاً من أن يصعدوا أعلى السفينة, ويؤذوا من فوقهم, يأخذون بالدلو من الماء, قال: نحن نثقب من الأسفل مكان جلوسنا, نثقب ثقباً صغيراً, نأخذ الماء دون أن نؤذي من فوقنا- فإن تَرَكُوهُمْ وما أَرَادوا هَلَكوا, وهلكوا جَميعاً، وإنْ أخذُوا على أيديِهِمْ نَجَوْا, ونَجَوْا جَميعا))
[أخرجه البخاري والترمذي عن النعمان بن بشير]
إليكم تفسير قول المصطفى :
معنى ذلك: المجتمع الإسلامي في قارب واحد, أو في سفينة واحدة, فإذا كان لا يوجد تعاون, وتناصح, وتضامن, يغرق الجميع معاً, وحينما يترك الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, ينتهي الإسلام, وهذا ما يحدث الآن, الإنسان ليس له مصلحة أن ينصح أحداً, كل إنسان يتحرك وفق ما يريد, الذي يحدث: أن الشر له قوة انفجار, وله قوة جذب, فالشر يستطير, ينتشر, يتفاقم, والخير يتضاءل, وينحصر.
فالإنسان إذا قال: ليس لي دخل, علي من نفسي؛ هلك, وهلك من حوله, لا بد من التعاون, لا بد من التضامن, فهذا الكلام في منطق: أنا هذه حصتي, وهذا مكاني, أفعل به ما أشاء, ولن أؤذي به فوقي, على العكس في كلام طيب, لن أؤذي من فوقي, أنا أحفر ثقباً صغيراً في مكاني, وآخذ الماء العذب.
قال: فإن أخذوا على يده نجا ونجوا, وإن تركوه هلك وهلكوا, لأنه في طبيعة للإنسان في شيء يتفجر من شهوات لها وهج, فالله عز وجل قال:﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾
[سورة البقرة الآية:187]
قبل فترة كنت في جلسة, طرح موضوع المحطات الفضائية, إنسان قال كلاماً, ظاهره منطقي, قال: يجب أن نقرر أن نرى كل شيء, أن نرى الطرف الآخر, كان في منافسات بين ملحد ومسلم, والملحد يفوز على المسلم, اختاروا مسلماً من الدرجة الثانية, وملحداً قوياًًًًًًً جداً, مكنوا هذا الملحد من أن يدلي بحججه, وآرائه أمام مئات الملايين, والناس ضعاف, فرددت عليه بالشكل التالي: قلت له: سأعكس الآية, لو قال أب: إلى متى أنا أتحدث عن الفضيلة بين أولادي؟ يجب أن يعلم أولادي, من هو الطرف الآخر؟ ماذا يفعل الكفار في بيوتهم؟ لا بد من أن أري أولادي أفلاماً إباحية حتى يتنوروا, هل يسمح أن يكون في بيته مثل هذه الأفلام؟ لأنه سيؤدي إلى دمار كامل, المجتمع إذا أطلق يد كل إنسان, يفعل ما يشاء, ينتهي المجتمع, لذلك: حينما قال الله عز وجل:﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾
[سورة آل عمران الآية :110]
يعني خيرية هذه الأمة, علة خيرية هذه الأمة: الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, وحينما يُهمل الناس هذا الواجب السادس, الذي يعد الفريضة السادسة, تنتهي الأمة, لأن الآية الكريمة:﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾
[سورة الأنفال الآية:25]
أوضح مثل: أن حريقاً شب في حي, لم يقم كل سكان الحي بإطفاء هذا الحريق, الحريق سيأتي على بيوتهم واحداً واحداً, وهذا مثل دقيق: ما لم ننهض جميعاً لمحاصرة المنكر, لإزالة المنكر, للأمر بالمعروف, هذا المنكر يستشري, وتمتد أصوله إلى كل بيت, لذلك ربنا عز وجل عد التواصي بالحق أحد أركان النجاة, قال تعالى:﴿وَالْعَصْرِ﴾
[سورة العصر الآية:1]
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾
[سورة العصر الآية:2]
﴿إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾
[سورة العصر الآية:3]
التواصي بالحق أحد أركان النجاة, ففي توازن, الإنسان حر, وصاحب حق, لكن هناك ما يسمى في الشرع: التعسف في استعمال الحق, هذا الذي يخرق مكانه في السفينة, ليأخذ الماء, يقول لك: هذا المكان مكاني, وأنا أفعل به ما أشاء, فلو أنه ثقب السفينة, لغرق كل من في السفينة, فهذا الحق اسمه: التعسف في استعمال الحق, أنا أستعمل حقي وفق منهج الله, أما أن أتعسف في استعمال الحق, هناك من يرد عني.
أنت حر إلى حد لا تؤذي الجماعة, فإذا آذيتم الجماعة فلست حراً, ويا أيها المجموع, أنتم أحرار إلى حد: أن لا تؤذوا الفرد, فإذا آذيتم الفرد, فأنتم مقيدون, فهذا التوازن الدقيق: بين مصلحة الفرد, ومصلحة الجماعة, موضح في هذا المثل الرائع......
أحياناً: تكون القضية جدلية, أو قضية نظرية, أو قضية مجردة, قضية أفكار دقيقة, لا تتوضح بشكل جلي إلا بالمثل, انظر إلى دعوى هذا الإنسان, يقول: هذا مكاني, الحق مقدس, هذا مكاني, أفعل به ما أشاء, يقول له: إن نحن سمحنا لك هكذا, غرقنا جميعاً, هنا حرية الفرد, وهذا ما يحدث في العالم الآن, كل فرد حر أن يفعل ما يشاء.
في محطات تتحدث في موضوعات لا يمكن أن تكون, إن قلنا: أنت حرة, أن تفعلي ما تشائين, انتهى المجتمع, فلا بد من أخذ التوازن بينهما.
وهذا مثل دقيق: أحياناً: الأسرة في قارب واحد, التعبير حديث: نحن في قارب واحد, بمعنى أن كلاً منا إذا لم يراقب أخاه, ولم ينتبه لأفعاله, يغرق الناس جميعاً, فهذا المثل الذي ذكره النبي عليه الصلاة والسلام من أوضح الأمثلة .
ماذا تفهم من هذه الأخبار عن الصحابة في هذا المقام ؟
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((إنَّ قُرَيشاً أَهَمَّهُمْ شَأنُ المرأَةِ المَخزوميَّةِ التي سَرَقَتْ -امرأة سرقت, وقريشاً أهمهم شأن هذه المرأة- فقالوا: مَنْ يُكلّمُ فيها رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومَنْ يَجترئُ عليه إلا أُسامَةُ بن زَيدٍ، حِبُّ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم؟
-يعني هنا: نضحي بألف امرأة, ولا نضحي بالمبدأ .
سيدنا عمر أسلم في عهده ملك من ملوك الغساسنة اسمه: جَبَلة بن الأيهم, يعني إسلام شخص عادي شيء, وإسلام ملك شيء آخر, سيدنا عمر رحب به, وهذا مكسب, فهذا الملك بقي بنفسية ملك, أثناء طوافه حول الكعبة, بدوي داس طرف إزاره, فالتفت نحوه, وضربه ضربة هشمت أنفه, انتهى الأمر.
هذا البدوي الضعيف, المستضعف, ليس له غير سيدنا عمر, فشكا إليه, سيدنا عمر استدعى هذا الملك: جبلة بن الأيهم, يعني جرى حوار, أنا أذكره كثيراً:
أصحيح ما ادعى هذا الفزاري الجريح؟ قال:لست ممن ينكر شيــــا أنا أدبت الفتى أدركت حقي بيديا
وفي إنسان صاغه على شكل شعر, قال: أرض الفتى لابد من إرضائه ما زال ظفرك عالقاً بدمائه
أو يهشمنَّ الآن أنفــــك وتنال ما فعلته كفــــك
قال: كيف ذاك يا أميــــــر هو سوقة وأنا عرش وتاج
كيف ترضى أن يخر النجم أرضا!؟
قال له سيدنا عمر: نزوات الجاهلية ورياح العنجهية قد دفناها أقمنا فوقها صرحاً جديدا
وتساوى الناس لدينا أحراراً وعبيدا
قال: كان وهماً ما جرى في خلدي أنني عندك أقوى وأعز
أنا مرتد إذا أكرهتني
قال: عنق المرتد بالسيف تحز عالم نبنيه كل صـــدع فيه
بشبا السيف يـــداوى وأعز الناس بالصعلوك تساوى
ارتد جبلة, وسافر إلى بلاد الشام, وتنصَّر, وشرب الخمر, وعاد إلى ما كان عليه.
التعليق على هذه القصة: أن سيدنا عمر, ضحى بملك, ولم يضح بمبدأ, يعني خسارة رجل أهون ألف مرة من خسارة مبدأ, هذه قاعدة .
فهذه المرأة المخزومية التي سرقت- فقالوا: مَنْ يُكلّمُ فيها رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومَنْ يَجترئُ عليه إلا أُسامَةُ بن زَيدٍ، حِبُّ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ -ورطوه- قالوا: فَكلَّمَهُ أُسَامَةُ، فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: أتَشفَعُ في حدٍ مِنْ حُدودِ اللَّه؟ ثم قام فَاخْتطَبَ، ثم قال: إنَّما أَهلك الذين قبلكم, أنَّهمْ كانوا إذا سَرقَ فيهم الشَّريفُ تَرَكُوه، وإذا سَرَقَ فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ, وَايْمُ اللَّهِ! لَوْ أنَّ فاطمةَ بنْتَ محمدٍ سَرَقَت لقطعتُ يَدَهَا))
[أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة]
هذا الدين بهذه المبادئ, الإسلام وصل للصين.
يروى أن سيدنا عمر له ابن, زلت قدمه, فأقام عليه الحد, ورجمه, ومات, يقال: قال له: ((أبلغ رسول الله! أن أبي أقام علي الحد))
كان سيدنا عمر إذا أراد إنفاذ أمر, جمع أهله وخاصته, وقال: ((إني أمرت الناس بكذا, ونهيتهم عن كذا, والناس كالطير؛ إن رأوكم وقعتم وقعوا, وايم الله! لا أوتين بواحد وقع, فيما نهيت الناس عنه, إلا ضاعفت له العقوبة, لمكانته مني))
فكانت القرابة من عمر مصيبة.
مرة رأى إبلاً ثمينة قال: ((لمن هذه الإبل؟ قال: هي لابنك عبد الله, قال: ائتوني به, فلما جاء قال: لمن هذه الإبل؟ قال: هي لي, اشتريتها بمالي, وبعثت بها إلى المرعى لتسمن, فماذا فعلت؟ قال: ويقول الناس: ارعوا هذه الإبل, فهي لابن أمير المؤمنين, اسقوا هذه الإبل, فهي لابن أمير المؤمنين, وهكذا تسمن إبلك يا بن أمير المؤمنين, أعلمت لماذا هي سمينة؟ لأنك ابني, بع هذه الإبل, وخذ رأس مالك, ورد الباقي لبيت مال المسلمين))
فقضية ألا نضحي بمبدأ, ضح بألف إنسان, ولا تضح بمبدأ, وإلا ينتهي الإسلام, ولو فهم الصحابة الإسلام كما نفهمه نحن اليوم, والله الذي لا إله إلا هو, ما خرج الإسلام من مكة, ما وصل إلى المدينة, أما لأنه وصل إلى الآفاق, وإلى مشارق الأرض ومغاربها, لأنه اعتمد على العدل.
يقولون: سيدنا علي, اشتكى عليه يهودي لسيدنا عمر, فكان سيدنا علي مع سيدنا عمر بمجلس واحد, قال: ((قم يا أبا الحسن, فقف إلى جنب الرجل, -صار في دعوى, وصار في مدَّعي عليه, مدَّعى عليه ومدَّعي- فسيدنا علي: تغير لونه, فلما حكم, انتهى الحكم, قال له: يا أبا الحسن, أوجدت علي؟ قال: نعم, قال: ولم؟ قال: لم قلت لي: يا أبا الحسن, ولم تقل لي: يا علي؟ لقد ميزتني عنه))
هذا نوع من التمييز.
قاضي من القضاة, أراد أن يستعفي الخليفة من هذا المنصب, قال له: ((طرق بابي البارحة, وقدم لي الرحى, وأنا أحب الرحى في بواكيره, قلت لغلامي: من الذي قدمه؟ قال: رجل, قال: صفه لي؟ قال: رجل كيت وكيت, فعرف أنه أحد المتخاصمين عنده, قال له: رد له الطبق, رده في اليوم التالي, يقول هذا القاضي: تمنيت أن يكون الحق, مع الذي قدم لي الطبق, مع أنني رفضته, فكيف لو قبلته!؟))
قال لي: يا بني البيت لك (بالهاتف), -هذه جديدة-, وأنا مقتنع: البيت لك, لكن خصمك, دفع لي ثلاثمئة ألف, إن دفعتهم أحكم لك, هذا قاض جديد؛ لأنه رد الطبق, وتمنى في اليوم التالي, تمنى أن يكون الحق, مع الذي قدم الطبق.والحمد لله رب العالمين