الحديث الشريف - إتحاف المسلم - الدرس (23-45) : الدين ورده إلى صاحبه مع عدم المماطلةلفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.انظر إلى علاقة الترابط بين هذين الحديثين من خلال الأمثلة :
أيها الأخوة الكرام, يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح المتواتر: ((إِنما الأعمال بالنيات))
[أخرجه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب]
إنما: أداة قصر, يعني قيمة العمل: محصورة في نيته.
هذا الحديث أصل, يعده العلماء ثلث الدين, فنية العمل: أصل في العمل.
يقول عليه الصلاة والسلام: ((من أخذ أَموال الناس يُريدُ أَداءها: أدَّى الله عنه، ومن أخذ أَموال الناس يُرِيدُ إِتْلافها: أتلفه الله))
[أخرجه البخاري عن أبي هريرة]
العامل المرجح: الإرادة الداخلية, في الظاهر: ((أخذ أموال الناس يريد أداءها: أدى الله عنه, ومن أخذ أَموال الناس يُرِيدُ إِتْلافها: أتلفه الله))
[أخرجه البخاري عن أبي هريرة]
إنسان يمشي في الطريق, رأى ليرة ذهبية, انحنى وأخذها, وضعها في جيبه, صورناه صورة متحركة, إنسان آخر وجد ليرة ذهبية, انحنى وأخذها, صورناه, الصورتان متطابقتان تماماً؛ الأول: نوى أن يبحث عن صاحبها, فارتقى عند الله, الثاني: نوى أن يأخذها دون أن يبحث عن صاحبها, فسقط في المعصية, شكل العمل لا يتغير أبداً .
العامل المرجح: هو النية؛ الأول: نوى أن يبحث عن صاحبها, الثاني: نوى أن يأخذها دون أن يبحث عن صاحبها, واحد ارتقى, واحد سقط, والشكل متشابه تماماً.
إنسان ذهب إلى بلاد الغرب, وعقد عقده على امرأة, العقد شرعي, في مركز إسلامي: إيجاب وقبول, ليس على العقد أي مأخذ, لكن في نيته, حينما ينتهي دراسته أن يطلقها, ويعود إلى بلده.
عند الإمام الأوزاعي السنوات الأربع التي يقضيها معها زنا؛ لأنه في نيته هذا الزواج, ليس مؤبداً, هذا زواج مؤقت, أراد أن يستمتع بها السنوات الأربع, وبعد ذلك يطلقها, الطلاق مباح, الإنسان يتزوج, وقد يطلق بعد يوم, ولا شيء عليه, أما حينما عقد العقد, العقد على التأبيد: ((من تزوج امرأة على صداق, وفي نيته ألا يؤديه: لقي الله زانياً))
ممكن إنسان أن يتزوج, ولا يدفع المهر, لكن ليس في نيته ألا يؤديه, لقي الله زانياً, قضية النية: قضية خطيرة جداً, وقد تجد إنساناً موفقاً, غير موفق, والعامل المرجح: هو النية.
رجل يقسم بالله: رأى أرضَين على طرفي نهر, مزروعتين قمحاً, والذي زرعهما واحد, الأرض الأولى: القمح بشكل عجيب, والثانية: بشكل عجيب, الأولى: بشكل عجيب نموه, والثانية: بشكل عجيب تراجعه, فلما سأل واستقصى؛ الأول: عم له أولاد أخ أيتام, في نيته أن يمنحهم نصف محصول هذه الأرض, والثاني: رجل مالك الأرض, رجل في نيته أن يأكل أتعاب مرابعه, تجد هذه النية تظهر في كل شيء, يعني قضية النية: قضية مرجحة.
تجد محلين مثل بعضهم: الأول: الزبائن فوق بعضهم, والآخر: لا يوجد ولا زبون, وقد يكون المحل الثاني أقوى, وبضاعته أجود, وسببه: نية الأول: أن ينفق هذا المال للمسلمين, الثاني: أن ينفق هذا المال على متع رخيصة؛ لما تجد الظروف المادية متشابهة, والنتائج مختلفة, ابحث عن العامل المرجح: وهو النية. ((من أخذ أَموال الناس يُريدُ أَداءها: أدَّى الله عنه، ومن أخذ أَموال الناس يُرِيدُ إِتْلافها: أتلفه الله))
[أخرجه البخاري عن أبي هريرة]
رأس مالك الوحيد: القلب السليم: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ﴾
[سورة الشعراء الآية:88]
﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾
[سورة الشعراء الآية:89]
انظر كيف يهلك الإنسان وهو لا يشعر ؟
أيها الأخوة, في حالتين من حالات التعامل مع النية؛ إنسان في البيت الحرام لم يفعل شيئاً, إلا أنه أراد: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾
[سورة الحج الآية:25]
ذنبه أنه أراد, لم يفعل شيئاً؛ يحاسب على إرادته لقدسية هذا البيت, وفي العلاقة بين المؤمنين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ﴾
[سورة النور الآية:19]
ماذا فعل؟ لم يفعل شيئاً أبداً, لكن ارتاح أن تشيع الفاحشة بين المؤمنين, ارتاح لهذا, هذا أيضاً يعد ذنباً كبيراً, فالذي يتمنى أن تشيع الفاحشة بين المؤمنين, هذا ارتكب ذنباً كبيراً.
فأحياناً الإنسان تزل قدمه, ويتمنى شيئاً لا يرضي الله عز وجل, هذا التمني بحد ذاته معصية كبيرة . الأحاديث التي وردت عن النبي التي تخص بشأن هذا البحث :
أيها الأخوة, يقول عليه الصلاة والسلام: ((يؤتى بالرجل الميت إليه, فيسأل: أعليه دين؟ -هل ترك لدينه قضاء؟- فإن حدث: أنه ترك وفاء, صلى عليه, وإلا قال: صلوا على صاحبكم))
انظر: ترك لدينه وفاء, إنسان يتدين, لكن يوجد عنده دكان, يتدين, يوجد عنده أسهم, يتدين, يوجد عنده بيت, يتدين, يوجد عنده دين مقابل, يتدين, يوجد عنده ذهب, الإنسان لما يتدين: يجب أن يفكر ألف مرة, كيف سيفي هذا الدين؟ .
في شخص: المهم أن يحقق مصلحته, يكون دخله فرضاً خمسة آلاف في الشهر, يطلب أن يتدين مئتي ألف, طيب كيف تسدده؟ يقول لك: تدبر, كيف!؟ أعطيك في الشهر مئة ليرة, خمسمئة, طيب, قسم مئتي ألف على خمسمئة, لا تنتهي طوال عمرك.
فالنبي -عليه الصلاة والسلام- كان من توجيهه: ((هل ترك لدينه قضاء؟ فإن حدث أنه ترك وفاء صلى, وإلا قال: صلوا على صاحبكم؛ مرة أحد الصحابة قال: أنا علي دينه يا رسول الله! -ورد في بعض الزيادات لهذا الحديث- في اليوم الثاني: سأل الذي تكفل الدين: أديت الدين؟ قال: لا, سأل في اليوم التالي قال: لا, سأله في اليوم الثالث قال: أديته, قال عليه الصلاة والسلام: الآن ابترد جلده))
[أخرجه البزار والإمام أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله]
فابتراد جلد الميت, الذي عليه دين؛ ليس بالتعهد, ولكن بالأداء, قال له: ((الآن ابترد جلده))
أنا أتعجب: إنسان عليه دين؛ المطالب تهلكه, بعد ذلك يمل, يتركه, مرتاح, عليه مبالغ ضخمة لم يسددها, ماطل حتى ملَّل صاحب الدين, والأمر مشي هكذا, هو مرتاح, وينفق, هذا الإنسان الذي عليه دين, ولا يؤديه, هذا اسمه: مطل الغني.
يقول عليه الصلاة والسلام: ((مَطْلُ الغَنيِّ ظُلْمٌ))
[أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة]
ومطل الغني: يُحلُّ أن تغتابه, يحل عرضه, إذا قلت: واحد سلعة, لا يدفع, قنَّاص, لا يوجد مانع, سمح لك النبي أن تحذر الناس منه, إنسان غني معه وفاء لهذا الدين, لكن لا يحب أن يدفع وفاء الدين.
يعني في شخص, معه ملايين مملينة, معين موظف بجامع, ينزل من مكان بعيد ليقبض الراتب؛ تعال غداً, بعد غد, والراتب ثلاثة آلاف ليرة, ومعك ملايين, نازل من مكان بعيد, راكب ساعة, يريد أن يأخذ معاشه, تعال في اليوم الثاني. ((مَطْلُ الغَنيِّ ظُلْمٌ))
[أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة]
يحل عرضه, فالغني إذا كان ماطلاً في دفع ما عليه, وصاحب الحق اغتابه, لا شيء عليه.
وعن وائل بن حجر -رضي الله عنه-, قال: ((جاء رجل من حَضْرَمَوْت، ورجل من كِنْدة، إِلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, فقال الحَضرمي: يا رسول الله! إن هذا قد غَلَبني على أرض كانت لأبي, فقال الكِندِي: هي أرضي في يدي، أزرعها, ليس له فيها حق, فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- للحضرمي: أَلَكَ بينة؟ -يعني معك دليل, معك سند, معك شاهد- قال: لا, قال: فلك يمينه, قال: يا رسول الله! إن الرجل فاجر, لا يبالي على ما حلف عليه, -جاءه الفرج بهذه العملية (يحلف)- وليس يَتَوَرَّع عن شيء, فقال: ليس لَكَ منه إِلا ذلك, فانْطَلَقَ لِيَحَلِفَ, فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- لما أَدْبَرَ: أَما لئن حَلَفَ على ماله ليأكله ظلماً: لَيَلْقَيَنَّ الله, وهو عنه معرض))
[أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي عن وائل بن حجر]
أحياناً الإنسان: يتهرب من دفع الزكاة بطريقة احتيالية, أحياناً يتهرب من دفع مهر زوجته؛ يطلقها قبل أن يموت, يتهرب من دفع ما عليه بحيلة معينة, فهذا الذي يفعل هذا, يقول هذا, يلقى الله وهو عنه معرض, والشيء بالشيء يذكر.
كثيرون جداً من الذين هم على فراش الموت, لا يؤدون لبناتهن حقهن, يعني في تصوره, هذا المال ينبغي ألا يذهب للصهر, لأنه هو يرى رؤيا خلاف الشرع؛ هذه ابنتك, ومن صلبك, وهي في أمس الحاجة للمال, لماذا تعطي الأبناء بغير حساب, وتحرم البنات, وأنت تصلي؟.
فأحياناً الإنسان: يضر في الوصية, فتجب له النار, فأد الذي عليك, أد المال لأصحابه.
أنا أعرف رجلاً, يعني له بيت, توفي والده, وخلف له ابن وابنة, يعني أخ وأخته, والأخت متزوجة, ولها زوج, والزوج له بيت, ودخله يكفيه, ولا يوجد أي مشكلة, البيت الذي يسكنه الابن؛ بيت فخم جداً, في حي راق جداً وغال, ماذا فعل هذا الابن؟ قيم البيت فارغاً, وأعطى أخته حقها بالتمام والكمال, ولو نظرت في هذا الموضوع, لو أحصيت مئة شاب ورث عن أبيه بيتاً, ولأخته حق في هذا البيت, يقول لها: هذا بيت العيلة, اسكني فيه إذا كنت تريدين, لا يدفع شيئاً أبداً, وأخته متزوجة, وعندها بيت, والله قيم البيت فارغاً, ودفع حق أخته بالتمام والكمال, هذا المؤمن, الحقيقة: هذا أصل الدين الورع.
(ما عومل الله بأكثر مما افترض علينا: أداء الحقوق), والإنسان عندما يؤدي الحقوق, يشعر الطريق إلى الله سالكاً, قريباً من الله, لا يوجد عنده حجاب بينه, وبين الله, حينما يأكل المال الحرام حجب عن الله عز وجل.
أيها الأخوة, آخر حديث: يقول عليه الصلاة والسلام: ((مَنِ اقتطعَ حَقَّ امرئ مسلم بيمينه: حرّم الله عليه الجنة، وأوجب له النار))
[أخرجه مسلم والنسائي ومالك في الموطأ عن إياس بن ثعلبة الحارثي]
إذا كان القضية تتعلق بالأرض, لم يبق غير اليمين, لم يأخذ وصلاً, ليس له غير اليمين, حلف نفد من عبد الله, أما من الله لم ينفد, هنا المشكلة.
فكل إنسان يحلف يميناً, ليقتطع مال امرىء مسلم بغير حق, وجبت له النار, لذلك: سمي هذا اليمين (يميناً غموساً), لأنه يغمس صاحبه في النار, هذا ليس له توبة, هذا ليس له كفارة, هذا له أن يعيد إسلامه, بأن ينطق الشهادة, لأن اليمين الكاذبة أخرجته من الدين.
اليمين الغموس أخطر يمين, تجد القاضي ليس أمامه إلا اليمين, يحلف, يكسب الدعوة, كسبها في الأرض, أما عند قاضي السماء لم يكسبها.
مرة شخص يطوف حول البيت, يقول: رب اغفر لي ذنبي, ولا أظنك تفعل, إنسان كان ماشياً خلفه, قال له: يا هذا, ما أشد يأسك من رحمة الله! قال له: ذنبي عظيم, سأله: ما ذنبك؟ قال له: كنت جندياً في فرقة لقمع فتنة, فلما جمعت الفتنة, أبيحت لنا المدينة –طبعاً: أبيحت المدينة للجنود-, قال: دخلت أحد البيوت, رأيت فيه رجلاً, وامرأة, وولدين, فقتلت الرجل, وقلت لزوجته: أعطني كل ما عندك, أعطته كل ما عندها, فقتل ابنها الأول, فلما رأته جاداً في قتل الثاني, أعطته درعاً مُذهبة من الذهب, قال: تأمل فأعجبته؛ فإذا عليها بيتان من الشعر, فلما قرأهما وقع مغشياً عليه, مكتوب على هذه الدرع المُذهبة: إذا جار الأمير وحاجباه وقاضي الأرض أسرف في القضاء
فويل ثـم ويـل ثم ويل لقاضي الأرض مـن قاضي السماء
لا تفرح بحكم من قاض, ولست محقاً فيه, لا تفرح, إن الله عز وجل ينفذ أحكاماً ثانية, ممكن أن تأخذ مالاً ليس لك, يخسر الإنسان إحدى أعضائه بحادث, الله منتقم وجبار: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾
[سورة البروج الآية:12]
لا تفرح أبداً بحكم من محكمة لصالحك, إن لم تكن محقاً, فلا تنجو من عذاب الله, بل الأغرب من ذلك: لو أن النبي الكريم, هو الذي حكم لك, ولم تكن محقاً, لا تنجو من عذاب الله. ((ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من الآخر, فإذا قضيت له بشيء, فإنما أقضي له بقطعة من النار))
[أخرجه البخاري ومسلم عن أم سلمة]
لا تفرح بحكم, ولو من رسول الله, ولو أنت لم تكن على حق افتراضاً, لأن النبي لا يحكم إلا على حق, لكن افتراضاً: افترض أن النبي حكم لك؛ كنت طليق اللسان, وذكياً, وعندك حجة قوية, وخصمك يضلك بالتعبير العامي, فالنبي حكم لك لا تنفد, فإذا كان شخص لا ينفعه فتوى النبي, هل ينفعه فتوى شخص عادي؟ علاقتك مع الله, والله عز وجل حاضر, وناظر, ومطلع, ويعلم.
عندي قضية أعجبتني: شخصان مختلفان على عشرة آلاف, قلت لهم: ادفعوها لجامع, ادفعوها صدقة, الله يعرف من هو صاحب الحق؟ يعني المبلغ هذا: ادفعوه لجامع, ادفعوه لفقير, الله يعلم من صاحب هذا المبلغ؟ لا يوجد حاجة أن تختلفوا, والاثنان في بحبوحة, بغنى عن هذا المبلغ.والحمد لله رب العالمين