شرح الحديث الشريف - إتحاف المسلم - الدرس (18-45) : التقييم في الدنيا لا يفيد إلا في الدنيالفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
إليكم الفرق بين موازين القرآن في تقييم الأشخاص, وبين موازين الناس في هذا الشأن, وأيهما الأنفع للعبد في نهاية المطاف ؟
أيها الأخوة الكرام, في مجال تقييم الأشخاص؛ كل إنسان يقيَّم بين الناس بقيمة, المشكلة: أن للناس وسائل للترجيح, وأن في القرآن وسائل أخرى, فالعبرة: أن تكون عند الله كبيراً, لا عند الناس.
((رُبَّ أَشْعَثَ أغبر ذي طمرين, مَدْفُوعٍ بالأبواب, لو أقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ))
[أخرجه مسلم عن أبي هريرة]
العبرة: المقياس الذي سوف توزن به, وأنت في القبر, الميزان الذي توزن به أعمالك, وأنت واقف بين يدي الله يوم القيامة, أما لك مكانة في المجتمع, بمقياس المجتمع: هذه تنفعك في الدنيا؛ ولكن لا تنفعك في الآخرة؛ الناس يعظمون أصحاب الأموال, الناس يعظمون الأقوياء, الناس يعظمون الأذكياء, الناس يعظمون أصحاب الحيل, ولكن الله يقرب المستقيم, يقرب المخلص, يقرب الطائع.
فيقول عليه الصلاة والسلام: ((ابتغوا الرفعة عند الله))
[ورد في الأثر]
أنا قد أبتغي الرفعة عند الناس, فأجمع المال الكثير يعظمونني, قد أبتغي الرفعة عند الناس, فأصل إلى منصب رفيع فيعظمونني؛ ولكن عندما أبتغي الرفعة عند الله: أبحث عن الأشياء التي تقربني من الله: (وإن الله طيِّب، لا يقبلُ إلا طيباً).
وطريق أن تكون قريباً من الله؛ طريق مفتوح, وسالك, وقصير, وسهل, ومتاح لكل الخلق, ولكن يحتاج إلى مجاهدة, أما طريق أن تكون عظيماً عند الناس, تحتاج إلى جهد كبير؛ ولكن تنتفع به في الدنيا فقط, يأتي الموت ينهي كل شيء, هذه الفكرة.
يعني: في مقاييس أرضية, في مقاييس علوية, في موازين للدنيا, في موازين للآخرة, في موازين عند الناس, في موازين عند الله؛ موازين الناس: تنفعك وأنت حي, حتى تكون دقيقاً (تنفعك وأنت حي), لكن موازين الله عز وجل: تنفعك إلى أبد الآبدين, فالعاقل: هو الذي يسعى, ليكون له عند الله مقعد صدق, عند مليك مقتدر:
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ﴾
[سورة القمر الآية:54]
﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾
[سورة القمر الآية:55]
ماذا تفهم من هذين الحديثين ؟
أيها الأخوة, أما بهذه العين: قد تجد إنساناً فقيراً, موظفاً في أدنى وظيفة, في دائرة صغيرة, مهملاً, لا أحد يعرفه, لا يُذكر إطلاقاً, بالتقييم: هو عند الله كبير, وقد تجد إنساناً له شأن كبير, يعني: إذا دخل إلى مجلس, هز المجلس, ولا يزن عند الله جناح بعوضة, هذا المعنى الدقيق.
يقول عليه الصلاة والسلام: ((إنه ليأتي الرجل العظيم –عند الناس- يوم القيامة, لا يزن عند الله جناح بعوضة))
[أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة]
أبداً؛ حجم المال, ونسبه العريق, منصبه الرفيع, ومكانته العالية, لا يزن عند الله جناح بعوضة, وقد يأتي رجل ضعيف, مستضعف, مدفوع بالأبواب, لا يُؤبَه له؛ إن حضر لم يعرف, وإن غاب لم يفتقد, ومع ذلك: له عند الله شأن كبير.
عن سهل بن سعد -رضي الله عنه-, قال: ((مَرَّ رجل على النبي -صلى الله عليه وسلم, هذا تعليم لنا-, فقال لرجل عندهُ جالس: ما رأيك في هذا؟ فقال رجل من أشْرافِ النَّاسِ: واللهِ حَرِيّ؛ إن خَطَبَ أن يُنكَحَ، وإن شَفَع أن يُشفَّعَ, فسكت النبي -صلى الله عليه وسلم-, ثم مرَّ رجل, فقال النبي الكريم: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله! هذا رجل من فقراء المسلمين, هذا حَرِيّ؛ إن خطب أنْ لا يُنكح، وإن شَفَعَ أن لا يُشَفَّعَ، وإن قال أن لا يُسْمَعَ لقوله، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا))
[أخرجه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد]
إذا الأرض تسع لمليار, خذ حجم الأرض, (خذ حجمها ليس سطحها), لو ملأناها أشخاصاً من نمرة هذا, كم شخص تسع؟.
قال: ((هذا خير من ملء الأرض من هذا))
النبي نظر إلى مقياس الله, إلى المنظوم الذي يميز الإنسان عند الله, الإنسان: يقيم عند الله بقدر نفعه للناس, وبقدر إخلاصه لهم, وبقدر طاعته؛ طاعته, ونفعه, وإخلاصه, وإنسان -الآن مثلاً- يقول لك: العالم اخترع السلاح الجرثومي, يمكن يأخذ مكافأة على اختراعه مئات الملايين, وله شأن, أما هذا الذي اخترعه, ماذا يفعل بالناس؟ يحرقهم, يدمرهم. مقياسك عند الله: بقدر طاعتك, وإخلاصك, ونفعك للناس.
مرة شخص حدثني عن عمله, له عمل, له شأن كبير, قال لي: عملي اسمه (العمل القذر), يعني: يمكن مكان عمله, غرفته تكلفتها عدة ملايين؛ تزيينات, وأثاث فخم, في اليوم الثاني: اضطررت أن أصلح سيارتي, في أحد أحياء دمشق النائية, وكان يوم مطير, وفي وحل, والأخ الكريم استلقى تحت السيارة, وفك علبة السرعة, وصلحها بإتقان, وأخذ أجرته المعتدلة, قلت: والله هذا عمل نظيف.
وازنت بين المكتب الفخم الذي زرته, وقال لي: أنا عملي قذر, وبين العمل الذي كله وحل, وزيت, وطين, والعمل متعب؛ لكن أتقن عمله, وأخذ أجرة معتدلة, هذا عمل نظيف.
هذه العين, ترى –مثلاً- محلاً فخماً جداً, في أرقى أسواق دمشق, وتزييناته بالملايين, تدخل النساء, يشترين, ينشأ نوع من العلاقات, نوع من الكلام الذي لا يرضي الله, نوع من التكشف بين هؤلاء النساء, الكاسيات, العاريات, وبين صاحب هذا المحل, أو الموظفين, تذهب إلى المحل في أحد أسواق دمشق المتعبة, الصناعية؛ ضجيج, ورائحة الزيت....... لكن عمل نظيف, لا يوجد ولا معصية, هذه العين؛ مسافة كبيرة جداً: بين هذا العمل, وهذا العمل الذي يرضي الله, العمل الخشن الذي لا يوجد فيه معصية, وهذا المكان الفخم لا يرضي الله.
يمكن تدخل إلى ملهى, أو إلى كزنو في بعض البلاد, يقول لك: القاعة تكلفتها ثلاثمئة مليون, أرقام فلكية, الأناقة شيء لا يوصف, بالعكس: تدخل إلى فنادق خمس نجوم؛ الأناقة, والترتيب, والأذواق, والتزيينات, والفخامة, شيء لا يوصف, لكن ماذا يجري في هذا البناء؟ الله أعلم؛ الحفلات, الخمور, الزنا, أكثر الموبقات في هذا البناء.
تدخل –مثلاً- إلى مسجد من الدرجة العاشرة؛ بناء قديم, متداع, قد لا يعجبك أثاثه, ولا بناؤه, ولا هيكله, ماذا يجري في هذا البناء؟ يجري دعوة إلى الله, يجري في هذا البناء –مثلاً- صلوات, تعليم, ذكر, يأتي الإنسان, يجتمع على الله في هذا البناء.
فأنت –دائماً- ابق مع الحقائق, الصور –أحياناً- مغرية جداً, الصور تبعدك عن الحقيقة, كن مع الحقيقة.
مرة ضربت مثلاً صارخاً: إنسان ورث من والده مبلغاً ضخماً, خمسة أخوة, الأب ترك عشرين مليون, وعنده خمسة أولاد, الأخ الأكبر قوي, وذكي, ومهيمن, أخذ العشرين كلهم له, وحرم أخوته, واشترى بيتاً فخماً, وزينه, ورتبه, فأنت دخلت لهذا البيت, أنت تؤخذ بفخامة البيت, وأناقة البيت, وتزيينات البيت, والأخ المحروم: اشترى بيتاً في طرف المدينة؛ قبو مظلم, فيه رطوبة, هذه العين, لا يعجبك هذا البيت؛ لكن هذا البيت مغتصب, هذا البيت غير مغتصب.
فدائماً: أنت –كمؤمن-: لا تؤخذ بالمظاهر, يجب أن تأخذ بالحقائق, الذي عمله نظيف, ومستقيم, وشريف, يجب أن تعظمه, وأن تحترمه.
أحياناً أرى: من العبادة أن تكرم إنساناً مؤمناً, ولو كان فقيراً, يأتي على دراجة, لا يوجد معه ثمن مركبة؛ لكن مستقيم, صادق, وترى إنساناً بانياً تجارته على أشياء محرمة, أو على احتيال, له مظهر فخم جداً.
العبرة: موضوع الدرس اليوم......, الصور البرَّاقة الصارخة, هذه تُعمي الإنسان عن الحقيقة, دائماً: أنت انظر إلى الواقع, إلى القيم التي يقيَّم بها الإنسان عند الله عز وجل.
هذه هي مقاييس الإسلام:
حديث آخر: عن عائذ بن عمرو:
((أن أبا سفيان, أتى على سلمانَ وصهيب وبلال, –هؤلاء صحابة فقراء؛ سلمان الفارسي, وصهيب الرومي, وبلال الحبشي, كلهم غرباء-, فقالوا: -قال هؤلاء-: مَا أَخَذَتْ سُيوفُ الله من عُنُقِ عَدُوِّ الله مأخذها، -مر أبو سفيان, أبو سفيان زعيم قريش, رجل له شأن كبير, الجزيرة هي أرقى مدينة؛ فيها مكة, ومكة أرقى قبيلة, فيها بنو هاشم, وقريش, وأبو سفيان زعيم مكة, فصهيب, وبلال, وسلمان....-, قالوا: مَا أَخَذَتْ سُيوفُ الله من عُنُقِ عَدُوِّ الله مأخذها, –سيدنا الصديق: سمع كلامهم, لم يرض أن يتجرأ هؤلاء الصغار على زعيم قريش, مع أنه غير مسلم-, فقال رضي الله عنه: أتقولون هذا لشيخِ قريش وسيِّدِهم؟ -لا يليق لإنسان صغير في مقياس المجتمع: أن يتهجم على إنسان كبير جداً, ولعل سيدنا الصديق له حكمة-, فأتى النبيَّ -عليه الصلاة والسلام- فأخبره، قال: يا أبا بكر! لعلَّكَ أغضبتَهم، -أغضب بلالاً.....-, لئن كنتَ أغضبتَهم, لقد أغضبتَ ربك، فأتاهم أبو بكر -مسرعاً- فقال: يا أخوتي, أغضبتُكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لَكَ يا أخي ما أغضبتنا))
[أخرجه مسلم عن عائذ بن عمرو]
يعني: السبب: النبي اعتبر هؤلاء الصغار, المنبوذون في نظر قريش, من أطراف البلاد, ليسوا من صلب قريش, لأن قال لهم: ((أتقولون لشيخ قريش هذا؟ قال: لعلك أغضبتهم, ولئن أغضبتهم, لقد أغضبت ربك))
فرجع سيدنا الصديق, استسمح منهم, هذا مقاييس الإسلام.
نقطة مهمة قف عندها:
يعني: في نقطة أحب أن أقولها لكم, -دقيقة قليلاً-, أحياناً: أحد أسباب ضعفك استقامتك, خصمك, لا يوجد عنده شيء حرام, ممكن أن يقدم زوجته.....
أحياناً: في أشخاص إباحيين؛ حتى يصل لمركز كبير, حتى يصل لمكانة, السماح باستيراد شركة كبيرة جداً, يصبح وكيل شركة, مثلاً: يأتي بملايين مملينة, يجوز أن يقدم كل شيء؛ يقدم الخمر, يقدم النساء, يقدم......
أنا أعرف شخصاً, يعني يرشي بامرأة, يستطيع المؤمن أن يفعلها؟ المؤمن مقيد, يعني: لا أقول لك: ضعيف؛ لكن أحد أسباب ضعفه: المؤمن مقيده الشرع, ليس كل شيء يستطيع أن يفعله, الطرف الثاني: لا يوجد عنده قيد.
تجد الدول العظمى, من أين أتت بهيبتها؟ من البطش, البطش: من أين يأتي؟ من القلب القاسي, ممكن أن يبطش بشعب بأكمله, يتركه يموت من الجوع, فلها هيبة, المؤمن لا يستطيع أن يفعل هذا الشيء, لا يستطيع الإنسان أن يأتي بمكانته من البطش, أو من الظلم, أو من السحق, أو من العدوان, لا يستطيع. فالمؤمن مقيد, أما الكافر ليس مقيداً, لا يوجد عنده قيد إطلاقاً.
إذا كان صح التعبير: أحد أسباب قوة الكافر: تفلته من أي منهج, مستعد أن يفعل كل شيء, وأحد -إن صح التعبير- أحد أسباب ضعف المؤمن: أن الإيمان قيد, الإيمان يقيدك.
((الإيمان قيد الفتك, ولا يفتك مؤمنا))
يعني: في قصة في ذهني, توضح المعنى: رجل وكيل شركة, فجاءت بذور من بلد عربي مجاور, تهريب لشركته, فبيعت بأسعار قليلة, فضرب سوقه, أتى ببذور رخيصة جداً (بلدية), وطلب من الشركة الظروف, وعبأ البذور الرخيصة جداً, بظروف من الشركة, وبعثها إلى لبنان, وجاءت تهريباً, الأسعار رخيصة, الناس اشتروا, وفرحوا, زرعوا, لم يطلع شيء! يعني: سبب لحوالي ألف فلاح, خسارة موسم بكامله, تربى الفلاح, لم يعد يشتر ظرف تهريب من الخارج, هل يستطيع المؤمن أن يعمل هذه العملية؟ فيك أن تضحي بموسم مئتي فلاح, يبقى على الحديدة من أجل أن تربي؟ هذه لا يفعلها, في ألف عمل يربحك, لكن حرام, فأنت مقيد, أما الكافر لا يهمه, مستعد أن يفعل كل شيء من أجل المال, بعد ذلك: يأكلها, بعد ذلك: بضربة باطون يأكلها.
فقصدي: أحياناً: تجد عند المؤمن ضعف, أحد أسباب ضعفه: خوفه من الله.
سيدنا رسول الله: أرسل خادماً, أطال كثيراً, فغضب -لأنه بشر صلى الله عليه وسلم-, فلما جاء, كان بيده سواكاً, قال له: ((والله! لولا خشية القصاص لأوجعتك بهذا السواك))
ومع ذلك: خاف من الله.
كلمني شخص, قال لي: لا أعلم كم مئة ألف إنسان, مقتولين في روسيا, أول ما الثورة....... لأنه ألقى عقب سيجارة في الطريق, إذا إنسان يقتل, لأنه ألقى عقب سيجارة, طبعاً: يصبح في هيبة كبيرة جداً, في انضباط..... لكن هذا نظام ثمنه دماء, لا يعد هذا عمل عظيم جداً, ما دام الإنسان يقتل لسبب تافه جداً, أما العبرة: أن يكون في نظام من دون قمع, يكون في نظام نابع من قناعة الناس, هذا يحتاج إلى جهد كبير, كل إنسان يستعمل العنف, قوام, تصبح له هيبة, أما العبرة: أن يكون في انصياع من دون عنف, بالقناعة.....
كيف في عهد رسول الله: يتولى سيدنا عمر القضاء, في عهد سيدنا الصديق سنتين, لم يأته ولا خصم, لم ترفع له ولا قضية, شيء يضيق الخلق, ولا واحدة, الإنسان في العمل يتحرك, يتسلى, ولا مشكلة, هذا آثار المجتمع المسلم.
في عهد سيدنا ابن عبد العزيز: يدور الإنسان أشهراً, ليجد فقيراً يقبل زكاة ماله, لا يوجد أحد يأخذ, الإسلام أغنى الناس. فلذلك: القضية هنا, قضية (مقياس عند الله).
((ابتغوا الرفعة عند الله))
[ورد في الأثر]
عند الناس: القضية سهلة؛ لكن عند الموت!! ينتهي كل شيء, أما عند الله إلى أبد الآبدين. والحمد لله رب العالمين