قصة هجرة اليمنيين إلى بريطانيا
في ليفربول المدينة الشمالية الغارقة في البرد والأمطار التي كانت لها شهرة مدوية كميناء بريطاني قبل أن تتلاشى أهميتها التجارية بفعل الضربات الجوية الألمانية، يقف على ساحلها الأطلسي نصب تذكاري لقتلى الحرب العالمية الثانية، وعلى النصب باللغة الإنجليزية أسماء آلاف القتلى ممن شاركوا في الحرب العالمية الثانية إلى جانب القوات البريطانية ضد النازية الألمانية،
في حينها. وبين أسماء الأشخاص الذين يحملون أسماء: جون، وبول، وجوناثان، وبيتر، توجد أسماء مثل: عبد الله، ومحمد، وعلي، وصالح، وقاسم وغيرها من الأسماء العربية اليمنية التي سقط أصحابها ضحايا الحرب الألمانية ضد الإمبراطورية التي لا تغيب عها الشمس، تلك الحرب التي دمرت ليفربول إلا كنيسة قديمة سقط سقفها وأبقاها البريطانيون شاهدا على فداحة الحرب التي شهدها النصف الأول من القرن الماضي، معظم هذه الأسماء العربية ليمنيين من المهاجرين الأوائل إلى بريطانيا لم يبخلوا بدمائهم في معارك الدفاع عن الأرض التي انتموا إليها ولم تبخل عليهم هذه الأرض بالتكريم الممتد في ذاكرة الإنجليز وذاكرة الأطلسي على حد سواء.

في «البلاد التي تموت من البرد حيتانها» عاش اليمنيون وبقوا رغم الشتات والبرد يسافرون مع الحيتان في البحار ويعملون في مصانع الصلب في برمنغهام ومانشستر وشيفيلد وكاردف وساوث شيلدز وغيرها من مدن المهجر البريطاني.

تسير بنا الرحلة غربا إلى ليفربول، نسير حتى نصافح مياه المحيط الأطلسي المفتوح على الذكريات والحروب وأشجان اليمنيين. لليمنيين مع الشواطئ البريطانية حكايات يرويها الموج والسواحل الممتدة وسفن البخار المعبأة بالفحم والبضائع والحكايات. وكانت طلائع الهجرات اليمنية إلى بريطانيا قد وصلت في نهايات القرن التاسع عشر، حسب أغلب المؤرخين، عبر البحار، وعملوا في البحار معظم الأوقات، وحينما نزلوا إلى البر اتجهوا إلى مصانع السيارات والحديد والصلب يضخون فيها من عرقهم ووقتهم ودمائهم مع كثير من كتل الحديد وشواظ النار (مات الكثير منهم تحت مخالب آلات المصانع)، ومرض الكثير بسبب المكوث فترات طويلة في غرف الفحم أمام جبروت النار والدخان.

تقول الدراسات التي اهتمت بالمهاجرين اليمنيين في بريطانيا إن أوائل اليمنيين الذين وصولوا إلى المملكة المتحدة قد قدموا إليها في ستينيات القرن التاسع عشر 1860م، وما بعدها. وعليه؛ فإن الجالية اليمنية يمكن أن تعد أقدم الجاليات المسلمة في بريطانيا على الرغم من أنها اليوم ليست أكبر الجاليات المسلمة في المملكة المتحدة. وتذهب بعض التقديرات إلى أن عدد اليمنيين في المملكة المتحدة يتراوح بين 70000 و80000 يمني، أو بريطاني من أصل يمني.

يذكر الباحث محمد المسيبي أن أغلب المهاجرين اليمنيين الأوائل كانوا غير متزوجين، والمتزوجون منهم لم يجرؤوا على إحضار زوجاتهم إلى بريطانيا نظرا لعدم ثقتهم بالبقاء في المهجر أو لخوفهم على أسرهم من الذوبان في خضم المجتمع البريطاني الذي لم يكونوا بعد قد ألفوه في الموجات الأولى من الهجرة. ويذكر كذلك أن الكثير من اليمنيين تزوجوا إنجليزيات أو آيرلنديات، مما أدى إلى انتهاء العلاقة بالزوجة اليمنية في اليمن بالنسبة للذين كانوا متزوجين من المهاجرين.

وتذهب بعض الدراسات إلى أن أول مسجد أسس في بريطانيا قد أنشئ في مدينة كاردف، عاصمة مقاطعة ويلز، أنشأه بحارة يمنيون كانوا يجوبون البحر بين الهند وعدن وكاردف في خدمة السفن البخارية التي تعمل بالفحم الذي مثل أول فرصة عمل لليمنيين الذين ركبوا البحر قديما، ومع الزمن أصبح البحر وطنهم الممتد من مومباي إلى كاردف، هل كان اليمنيون يحلمون بوطن أجمل من هذا؟ وطن يمتد من شواطئ جاوة ومومباي إلى أرصفة الموانئ في ساوث شيلدز وليفربول، إنه بحق «وطن من ماء».

غير أن أهم مراكز تجمع اليمنيين في المهجر البريطاني يعد في مدينة برمنغهام في مقاطعة الوسط الإنجليزي، حيث اشتغل معظمهم في صناعة الصلب على اعتبار أن الأجيال الأولى من اليمنيين الذين وفدوا إلى المدينة لم يكونوا من أصحاب الكفاءات العلمية التي تؤهلهم إلى العمل مع البحرية البريطانية، ولذلك توجهوا إلى مهن شاقة جسديا، لكنها لا تحتاج إلى مجهود عقلي أو كفاءة علمية، حيث كانت الأولوية في وظائف البحارة تعطى لمن يجيدون القراءة والكتابة على الأقل.

وكان لمدينة كاردف نصيبها من هجرة اليمنيين، إذ وصل تعداد اليمنيين في عشرينات القرن العشرين إلى 1500 يمني كانوا حينها يمثلون نصف عدد أبناء الأقليات العرقية في المدينة في ذلك الوقت.

أما ليفربول فقد وصلها اليمنيون في مطالع القرن العشرين حيث بدأوا في الانتقال من البحر إلى البر، وبدأت المدينة تشهد مع مرور سنوات القرن المنصرم عددا متزايدا من المحلات الصغيرة (الدكاكين) التي يمتلكها اليمنيون، حيث لا تزال الجالية اليمنية في ليفربول من أكثر الجاليات اليمنية ممارسة للأعمال التجارية وامتلاكا للمحلات الصغيرة، وإن كان البعض قد دخل في ميادين أوسع على المستوى الاقتصادي.

أما لندن؛ فعلى الرغم من أنها العاصمة فإن وجود اليمنيين فيها يعد بنسبة أقل مقارنة بغيرها من المدن البريطانية، غير أن جالية يمنية يهودية توجد في إن دبليو لندن، وستامفورد إيل. حيث لا يزال اليهود اليمنيون، كغيرهم من أبناء الجالية اليمنية في بريطانيا، محتفظين بالعادات والتقاليد اليمنية، بما في ذلك مضغ القات وتدخين النارجيلة.

وتوجد كذلك جالية يمنية كبيرة في شيفيلد، بالإضافة إلى جاليات أخرى في مانشستر ونيو بورت وساوث شيلدز التي يرجع تاريخ وصول اليمنيين إليها إلى عام 1890م، وهي أول مدينة بريطانية شهدت أول إضراب أو أعمال شغب ومظاهرات سميت في ما بعد بـ«احتجاجات العرب» (Arab Riots)، قام بها البحارة العرب اليمنيون للمطالبة بالمساواة في حقوق العمالة بعد إحساسهم بعدم المساواة في هذه الحقوق مع البحارة البيض وذلك في عام 1919م في قصة شهيرة تحولت في ما بعد إلى فيلم وثائقي مثير عرض في أكثر من مدينة بريطانية.

وفي سنة 1977 زار ساوث شيلدز الملاكم العالمي المسلم محمد علي كلاي الذي عقد زواجه الإسلامي في مسجدها الذي يسمى «الأزهر» تيمنا بالأزهر الشريف في مصر، وقد التقى أعيان الجالية اليمنية هناك، وفي ما بعد تحولت قصة الزيارة إلى فيلم وثائقي تحت عنوان «ملك الجنوب» (The King of the South) أرخ للزيارة وأثرها على معنويات الجالية اليمنية والمسلمة بشكل عام في هذه المدينة من مدن الجنوب البريطاني.

بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد تضاؤل العمل في السفن البخارية المعتمدة على الفحم، التي كانت المهنة الأولى التي امتهنها أغلب المهاجرين اليمنيين في بريطانيا، تحولت مراكز تجمع اليمنيين من مدن الموانئ البريطانية المناسبة لـ«حل وترحال» البحارة، واستبدل الكثير منهم مهنته بمهنة أخرى تمثلت في العمل بمصانع الحديد والصلب في مدن الوسط والشمال البريطاني، التي نهضت صناعة الحديد والصلب فيها على أكتاف المهاجرين اليمنيين الذين تحولوا إلى العمل فيها بعد كساد مهنة البحارة، إثر التحول من الاعتماد على الفحم في تسيير السفن إلى المحركات الحديثة.

وفي المصانع تبدأ قصة اليمنيين مع الحديد الذي ألانوه وشكلوه وعايشوا مراحل تكوينه سيارات ومعدات مختلفة، قصص عجيبة من المعاناة والصبر والكفاح. ولا يزال عدد من المعمرين من المهاجرين اليمنيين يعيش في مدن الشمال والوسط البريطاني، ولكل منهم قصة تستحق أن تروى..

يروي أحمد الملاحي (73 عاما) كيف كان شاهدا على مصرع عدد من زملائه عندما يقعون في الأفران الضخمة التي تصهر فيها كتل الحديد، وتختلط عظامهم ولحومهم بالحديد المذاب في مشاهد تراجيدية مرعبة. يواصل، مفتخرا: «عملنا أعمالا ما كان الإنجليز يقدرون عليها، وكنا في المصانع نعمل في الأماكن الأكثر خطورة أو التي نكون فيها أكثر عرضة للموت»، ويواصل بشيء من التأثر: «بنينا بريطانيا على أكتافنا، وقدمنا لها الكثير، وبريطانيا ما قصرت معنا، والحق يقال».

غير أن بعض المهاجرين اليمنيين في بريطانيا قد شدوا الرحال في رحلة عكسية إلى السعودية ودول الخليج العربي، وبعضهم هاجر إلى الولايات المتحدة، في سبعينات وثمانينات القرن المنصرم نتيجة للأزمة التي عصفت بقطاع الصناعة في بريطانيا في ذلك الوقت.

* القتال في ليبيا

* يقول العم أحمد (85 عاما): «ركبت البحر من عدن إلى أديس قبل ستين سنة ومنها إلى مصر ثم إيطاليا، وقال لنا الطليان: معنا لكم شغل. قلنا: ما هو؟ قالوا: عسكرة في ليبيا. قلنا لهم تمام. وسافرنا ليبيا مع البحر ودربنا (النصارى) على السلاح، وقالوا تقاتلون معنا لصوص الصحراء، وخرجنا معهم وكنا في المقدمة والنصارى (الطليان) في المؤخرة، ونحن في الطريق هجم علينا (قطاع الطرق) وهم يصرخون: (الله أكبر) وصرخنا بدورنا: (الله أكبر على الكفار قطاع الطرق) ودارت معركة قصيرة فر الطليان بعدها وتركونا في المعركة، وطلع لنا (قطاع الطرق) مثل الجن من حفر حفروها تحت الأرض، وعرفنا في ما بعد أننا كنا نقاتل الثوار الليبيين الذين أسرونا وقالوا لنا: من وين جيتوا؟ (من أين أتيتم؟) قلنا: من اليمن. قالوا: كيف تقاتلون ضد إخوانكم مع الطليان؟ وقلنا لهم: والله ما لنا علم، قالوا لنا الطليان أننا سوف نقاتل (لصوصا وقطاع طرق)، وعسكرنا معهم من أجل الراتب». ثم يحكي كيف أن الثوار الليبيين أكرموهم في ما بعد وأوصلوهم إلى مصر، وأعطوهم من المال ما يكفي لإيصالهم إلى اليمن عن طريق البحر الأحمر. غير أنهم عندما وصلوا إلى أديس أبابا غيروا وجهتهم وعادوا أدراجهم. وهنا قاطعته: إلى أين؟ قال: «إلى البحور السبعة؟» قلت: كيف؟ قال: «يا ولدي والله لا يوجد بحر إلا وقد ركبه عمك أحمد، من الجابان (اليابان) إلى هونغ ونغ والهند وفرانس (فرنسا) وبلاد الجرمان (ألمانيا) والطليان وأميركا.. ووصلت بلاد الثلج اللي يسمونها آيسلاند وأبحرت من بنما، وبنما بلاد خِلقة (جميلة) وبناتها حلوات قوي».

* صلاة في المسجد الأقصى

* يقول قائد زاهر (82 عاما): «خرجت من اليمن وعمري يمكن عشرين سنة، لست متأكدا، ما كانوا يكتبون تواريخ الميلاد على أيامنا. ركبت البحر من عدن أسمرة ثم أديس (أديس أبابا) وكانت الحرب العالمية الثانية، كان الإنجليز يصبون علينا النار من الطيارات، وكنت أول مرة أرى طيارة في حياتي، يا ساتر! والخوف الذي كان في، واستمرت الحرب وهربنا من إثيوبيا على الأقدام لمدة ثلاثة أيام وصلنا خلالها إلى حدود السودان، وقابلنا الإنجليز وشغلونا عساكر لحراسة الجمال المسافرة إلى مصر، وسلموا لنا بنادق (أسلحة نارية). ومرة كنا مسافرين على ضفة النيل وخرجت لنا أسماك ضخمة من النهر، وكنت أول مرة أرى مثلها، وخفنا جدا، ولكني أطلقت عليها النار وأصبت واحدة والباقي هرب إلى النهر. قال لنا السودانيون في ما بعد إنها كانت تماسيح».

بعد ذلك، يتحدث العم قائد عن سفره إلى مصر، ورفض الإنجليز في مصر إعطاءه إقامة، بل أن الإنجليز «رحلونا إلى فلسطين». يقول: «عملت في حيفا ثلاث سنوات، ولقيت اليهود اليمنيين هناك. وقابلت يهودا من قريتي أعرفهم قبل سفرهم إلى فلسطين، ودعوني إلى الغداء، وبعد أن أكلنا العصيدة والأرز باللحم أعطوني القات الذي زرعوه هناك، وخزّنا (مضغنا أوراق القات) معا، وتذكرنا الحياة أيام زمان في القرية، وكانوا يحنون إلى اليمن رغم أن حياتهم في فلسطين أحسن.

وجاءت حرب العرب واليهود (1948)، وقلنا لعبد القادر الحسيني نريد سلاحا لكي نقاتل معكم، لكنه قال: (مثل ما تشوفوا ما عندن سلاح كافي)، وكان كل اثنين من العرب يشتركان في بندقية واحدة. وبعدها وصلنا القدس يوم الجمعة، وصلينا صلاة الجمعة في المسجد الأقصى، ولقينا بعدها الملك الهاشمي (عبد الله بن الحسين) في قصره، وأكرمنا وأعطانا أوراق سفر أردنية، وقال: (أنتم اليمانية أصل العرب وأنا فخور بكم) وقال: (تريدون أن تجلسوا معنا في الأردن أهلا وسهلا أو أن ترجعوا إلى اليمن رجعناكم، أو تروحون مصر أو أوروبا سفرناكم وأعطيناكم مصاريف)».

ويضيف قائد زاهر: «اخترت أنا السفر إلى فرنسا، ومنها إلى لندن ثم شيفيلد التي اشتغلت فيها في مصنع لمدة ثلاثين سنة متواصلة، عرفت وعرفني كل العمال والمديرين، وكانوا يقولون لي: (مستر زاهر يو آر أ غود مان) أي أنت رجل جيد».

قلت لقائد: يا عم قائد.. هل اشتغلت في البحر مثل غيرك من اليمنيين؟

قال: «لا. ما كان عندي شهادات ولا أحد ساعدني من اليمنيين، حيث شغل البحر يحتاج تعليما، وأنا ما كان عندي الذي يريدونه».

سألته: كم صار لك في بريطانيا؟

قال: «خمسون سنة، أو أكثر». قلت هل تعلمت الإنجليزية؟

قال: «نعم، لكن نسيتها حينما تقاعدت، لأني لم أعد أمارسها، وجاءت زوجتي المغربية وتعلمنا المغربية (ضاحكا) ونسينا الإنجليزية بالكامل».

أما الحاج ناجي (76 عاما) فيقول مسترسلا: «مرت على رأسي الحرب العالمية الثانية، وحروب العرب واليهود وطفت بلاد العالم. واشتغلت في البحر (بحارا) ووصلت حيفا وغزة والإسكندرية ومالطا ومومباي وهونغ ونغ وبرلين ومرسيليا وكاردف وعشت في شيفيلد وليفربول، وعشت مع الفحم في السفينة سنوات طويلة، رأيت كل الأجناس، ولأني كنت بحارا كنت أتزوج وأطلق حسب ظروف السفر.. هل تصدق أن لي بنتا يابانية؟».

ويضيف: «يا ولدي الإنجليزيات حلوات، لكن الواحدة منهن ما تخلي فلوسك تحط (مبذرات) واليمنية تساير ظروفك، بس إنها مسكينة ما تهتم بنفسها».

قلت: من تفضل إذن؟

قال: «في الشباب فضلنا الإنجليزيات، وبعدما عقلنا رجعنا وتزوجنا عربيات. العربية تهتم بحالك ومالك، كل الذين تزوجوا إنجليزيات راحوا وانتهوا، وجاء عيالهم على أمهاتهم، لم يصبحوا عربا ولا صاروا إنجليزا».

ويخالفه الرأي أحمد الكندي (79 عاما) الذي يرى أن المرأة الإنجليزية أكثر تحضرا، وهو يذكر أن زوجته كانت مخلصة له إلى حد أنها تركت أهلها الذين عارضوا زواجها منه، كما عارضوا اعتناقها للإسلام. ويقول محمد الملاحي (71 عاما) (متزوج بآيرلندية): «لأن زوجتي متعلمة ومن هذا البلد، استطعت أن أدخل أولادي الجامعة، حيث وصلوا إلى أعلى المستويات، المشكلة معهم أنهم لا يتكلمون اللغة العربية لأن زوجتي لا تتكلم العربية»، وما عدا ذلك فإن الحاج محمد يرى أنه عاش مع زوجته حياة طيبة، وأن الأمر لا يتوقف على جنسية الزوجة أو ثقافتها، وإنما يعتمد على وجود تفاهم بين الزوجين من عدمه.

أما علي محمد (70 عاما)، فيقول: «تعبت من اللغة الإنجليزية، على الرغم من وجودي ما يقارب أربعين سنة في بريطانيا، قالوا لي لو تزوجت إنجليزية فسوف تتعلم الإنجليزية، وتزوجت إنجليزية وانتهت المعاناة، ليس لأني تعلمت الإنجليزية، بل لأن الزوجة تعلمت بسرعة اللغة العربية، وأصبحت كأنها من قريتي في اليمن».

وغير ذلك الكثير. غير أن جيلا آخر جاء مع الثمانينات كان على خلاف الآباء والأجداد، وهذا ما سنحاول التعرض له في الحلقة القادمة والأخيرة من هذا العرض لحياة جالية قال عنها تم سميث إنها «جالية مسافرة فوق الماء، كما سافر أسلافها على طريق البخور».

* لغة إنجليزية بلكنة يمنية

* للجيل الأول من اليمنيين حكاياتهم الطريفة في التعامل مع اللغة الإنجليزية. فبحكم أنهم ما أتوا لتعلم الإنجليزية أو غيرها من اللغات والعلوم، وإنما أتوا لطلب الرزق، فإنهم تعلموا الإنجليزية بالمشافهة والمحادثة والتخاطب اليومي مع البريطانيين في الشوارع أو المصانع أو الأماكن العامة، وبعضهم أخذ الإنجليزية عن زوجته التي كان لها الأثر الأكبر في إتقانه «الإنجليزية المحكية».

ومع ذلك فإن للجيل الأول من اليمنيين طريقته الخاصة في نطق بعض الكلمات والجمل الإنجليزية بما يتلاءم ولسانهم العربي أو لهجتهم اليمنية. وفي القاموس اليمني - الإنجليزي أو الإنجليزي – اليمني، سمه ما شئت، هناك مفردات ينطقها اليمنيون بشكل يحتاج إلى شرح وترجمة.

أذكر في هذا الخصوص أنني في بداية حياتي في بريطانيا كنت أسكن مع قاسم (70عاما) الذي كان يمن علي بأنه يتكلم الإنجليزية بشكل أفضل مني، لأنه أخذها من الإنجليز والإنجليزيات مباشرة، أما أنا فأدرسها - حسب رأيه - بطريقة مختلفة. وأذكر في السياق ذاته أن صديقا إنجليزيا زارني في السكن الذي كان يشاركني فيه العم قاسم الذي أراد أن يثبت لي أنه قادر على التخاطب مع الإنجليز (كنت دائم التشكيك في سلامة لغته الإنجليزية، وأقول له: يا عم قاسم ضيعت العربية وما تعلمت الإنجليزية)، فيرد ضاحكا: «أحسن من لغتك (يا أبو يمن)»، وتحدث العم قاسم إلى الصديق الإنجليزي بلغته الإنجليزية المضحكة، وكنت أكتم ضحكي وإعجابي في الوقت ذاته. غير أن الصديق قال لي أثناء المغادرة إنه لم يفهم كلمة واحدة من كلام الـ«أولد مان». ضحكت وقلت له: هذا أستاذي في اللغة الإنجليزية. فرد ضاحكا بشيء من المكر: «الآن اتضح لي لماذا ينقطع التواصل بيننا أحيانا».

ولليمنيين كما لبعض العرب في بريطانيا طرائقهم العجيبة في نطق بعض الكلمات والجمل الإنجليزية، ومن الكلمات الإنجليزية التي تنطق بلكنة يمنية:

لصبطان: Hospital - مستشفى.

وِنَد: Windows - شبابيك. (تم استعمال جمع التكسير في العربية لجمع الكلمة الإنجليزية).

أبواك: Books - كتب. (جمعت جمع تكسير) أدوار: doors - أبواب. (جمعت جمع تكسير) شـابــات: Shops - دكاكين. (جمعت جمع مؤنث سالم) فَنيشه: Furniture - أثاث.

يأنشر: To make Insurance - يؤمن على (السيارة ونحوها)، فعل مضارع يبدأ بالياء حسب القواعد العربية.

سيِّف: To save - يقدم خدمة للزبون.

فيَّزوا له: They gave him a visa - أعطوه تأشيرة دخول.


****

يقول تم سميث في كتابه «الفحم البخور والمر: اليمن واليمنيون البريطانيون»، «اليمنيون أمة تاجرة، أمة مسافرة، سافروا قديما على امتداد سواحل البحر الأحمر، والمحيط الهندي، سافروا في الصحارى والجبال، ونتيجة لذلك استقر اليمنيون في كل بلدان العالم، وأنشأوا أقدم جالية مسلمة في بريطانيا.



وعلى الرغم من قرب اليمنيين من السعودية وعمان، فإنهم أقرب إلى البحر الذي أسس لوظيفتهم القديمة في اقتحام الحدود».
بينما يقول قائد دبوان المولود سنة 1929م، وقضى 28 عاما يعمل في إنجلترا: «أبي وجدي عملا في إنجلترا في شركات التجارة البحرية البريطانية، وقد عملا في أستراليا وكندا ونيوزيلندا وشمال أميركا وأفريقيا، ستجد اليمنيين في كل مكان في العالم على ظهور السفن. ولو كانت السفن تسافر إلى القمر لوجدت اليمنيين هناك».

ويلحظ فريد هاليداي في كتابه «Arabs in Exile» ملمح الحزن على وجوه اليمنيين المكدودة جراء السفر وراء الأحلام والدهشة، وأحيانا وراء السراب، يقول: «ليس من الصعوبة أن تقرأ في وجوه العمال اليمنيين حزنا عميقا ولدته سنوات من القسوة والتوق. ألم الهجرة والحزن والحنين للوطن يعد معنى متكررا في الشعر اليمني».

كثيرون يعرفون «Mokha Coffe» غير أن قلة تعرف أصل هذه التسمية، أو تعرف أن «Mokha Coffe» هو الترجمة الإنجليزية لـ«بن المخا». حيث عرفت أوروبا البن عن طريق اليمن الذي كان يصدر البن إلى أصقاع العالم عن طريق مينائه الشهير «المخا» (Mokha)، تلك المدينة الواقعة على ساحل البحر الأحمر، التي منحت العالم قبل قرون الدفء والحميمية والقهوة اليمنية الشهيرة.

بعد فترة تنبهت بريطانيا إلى أهمية هذا الميناء لتجارتها مع الهند، فأنشأت شركة «الهند الشرقية» التي كان مقرها لندن، وأنشأت مقرا لها في هذه المدينة عام 1618، ليكون حلقة وصل بين الموانئ البريطانية والموانئ الهندية، غير أن بريطانيا باحتلالها عدن سنة 1839 بدأت الاهتمام بميناء عدن بدلا من المخا، الذي أصابه الإهمال، بعد أن صارت عدن هي الميناء الرئيسي الرابط بين سلسلة الموانئ الأوروبية من جهة وسلسلة موازية من الموانئ في الهند وجنوب شرقي آسيا.

ومن هنا بدأ تأريخ الهجرة اليمنية، من هنا ارتبط اسم عدن بآلاف المهاجرين الذين قصدوها من كل أنحاء اليمن لينطلقوا فيما بعد في موسم الهجرة إلى الشمال. وكما ركب الجيل الأول من المهاجرين اليمنيين «ثبج البحر» إلى الجزر البريطانية لأغراض اقتصادية بحتة، ركب جيل آخر منهم «ثبج الجو» لأغراض مختلفة. في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي كانت بواكير جيل آخر من مبتعثي الجامعة في اليمن يحزمون حقائبهم ولكن ليس إلى سفينة تمخر عباب خليج عدن، ولكن على ظهر طائرة حطت في مطار هيثرو في لندن. ثم توالت السنوات وتكاثر الطلبة الذين جاءوا من جهات مختلفة في اليمن وعلى حساب جهات مختلفة في الحكومة اليمنية والمنظمات الداعمة والشركات التجارية.

جاء الطلبة اليمنيون على جالية أغلب أعضائها عمال مصانع أو أصحاب محلات صغيرة أو بقية من بحارة ركبوا الموج ذات يوم. حاول الطلبة عندئذ تنظيم الجالية وربطها بشكل أكبر بنفسها وبالثقافة العربية الإسلامية والوطن الذي جاءوا منه.

وعلى الرغم من أن الأجيال الأولى من المهاجرين جربوا إقامة الجمعيات والمراكز الثقافية، فإن هذا العمل شهد نقلة أخرى مع انخراط الطلبة في الأعمال والأنشطة المتعددة في نطاق الجالية.

وتمت مع الموجات المتأخرة من المهاجرين إقامة عدد من المنظمات في كل من برمنغهام وليفربول وشيفيلد ومانشستر وكاردف ونيو بورت ولندن وغيرها من المدن البريطانية.

وفي فترة من الفترات كانت الحكومة اليمنية ترسل بعض المساعدات المادية العينية لدعم أنشطة الجاليات، خاصة ما يتعلق منها بتعليم اللغة العربية ومادة الدين، غير أن عدة متغيرات حالت دون استمرار الدعم من الجانب الحكومي، وفي مقدمة هذه المتغيرات الظروف الاقتصادية التي مر بها البلد.

وعلى الرغم من تقديم تلك المنظمات خدمات معينة لأبناء الجالية في المهجر، وعلى الرغم من حصول الكثير من هذه المنظمات على دعم مادي من الحكومة البريطانية، فإن كثرة الصراعات على إدارة هذه المنظمات وقلة الكوادر المدربة لديها وشخصنة العمل الجماعي، وإنشاء مؤسسات لخدمة القائمين عليها في المقام الأول، كل ذلك أدى إلى إهدار الكثير من مواردها المادية دون تحقيق الأهداف التي صرفت لأجلها الأموال لهذه لمنظمات.

وبعيدا عن الطلبة اليمنيين الذين جاءوا للدراسة في الجامعات البريطانية من اليمن، توجد اليوم نسبة لا بأس بها من أبناء المهاجرين اليمنيين أو أحفادهم في عدد من الجامعات البريطانية، كما يوجد عدد من اليمنيين الذين يعملون في وظائف الطبقة الوسطى في المجتمع البريطاني مثل الطب والهندسة والمحاماة والتدريس وغيرها من الوظائف الحكومية والخاصة.

* نجوم خلف الضباب

* اللافت للنظر أن المهاجرين اليمنيين من أبناء الجيلين الثاني والثالث في بريطانيا إذا ما قورنوا بنظرائهم من المهاجرين اليمنيين من الأجيال ذاتها في دول مثل ماليزيا وإندونيسيا، فإن الفارق شاسع للغاية. ففي الوقت الذي حقق فيه المهاجرون اليمنيون في ماليزيا وإندونيسيا - مثلا - مكانة اجتماعية واقتصادية، بل وسياسية مهمة، فإن نظراءهم في بريطانيا لم يصلوا إلى ما وصل إليه هؤلاء المهاجرون في شرق آسيا، الذين أصبح بعضهم وزراء، بل رؤساء وزراء في بلدان المهجر التي أصبحت بلدانهم الدائمة.

طبعا هناك عوامل ثقافية واجتماعية وسياسية وبيئية مختلفة - ليس هذا مجال حصرها - أدت إلى وجود هذه الفروق بين الجاليات اليمنية في شرق آسيا، والأخرى في غرب أوروبا.

ومع ذلك فإن بعض الشخصيات اليمنية من الأجيال المتأخرة قطعت شوطا لا بأس به في مجتمعها الجديد في بريطانيا، وأصبح لها دور في النشاط الثقافي والاجتماعي، ضمن إطار الجالية والمجتمع الذي يعيشون فيه.. «الشرق الأوسط» التقت بعض هؤلاء الذين يشكلون فصلا آخر من رواية اليمنيين في بلاد الضباب.

محمد لحسون، فنان تشكيلي يمني، يعيش في شيفيلد، شارك بلوحة فنية رسمها للملكة أروى بنت أحمد الصليحي بطلب من قسم التحف الفنية في متحف شيفيلد. يقول محمد لحسون: مكثت سنتين أبحث في تاريخ الملكة أروى في المصادر التاريخية، حتى أرسم صورتها في رأسي، كنت أنام وأنا أحلم بالملكة أروى، ومن كثرة ما تحدثت عنها بدا للآخرين، أو لي على الأقل، أنني مقدم على الزواج بها. بعد ذلك بدأت مرحلة رسم الملكة، دخلت مقصورة الملكة بشيء من الرهبة والمهابة، كنت أقضي الليالي الطوال مع لوحة أروى في إحدى غرف البيت التي تحولت إلى مرسم، أو قل أصبحت مقصورة ملكية، لم يكن يؤذن لأحد غيري بالدخول إليها.

بعد أن أكملت اللوحة - يواصل لحسون - أحسست أنني قد ولدت الملكة أروى، كنت مثل بيجماليون، الذي رسم رسمة ذات يوم، ثم وقع في غرام ما أبدعت يداه، هل قلت إنني كنت شاعرا شعر بإنجاز آخر كلمة في قصيدته مع وضع اللمسة الأخيرة في لوحة الملكة أروى.

حققت هذه اللوحة حظها من العيون التي طافت بها من مختلف الأجناس بعد أن تربعت على إحدى عتبات القسم الخاص بالمقتنيات الثمينة في متحف شيفيلد الوطني. شعرت بالسعادة الغامرة وأنا أرى عملي يلقى عناية خاصة من قبل القائمين على المتحف، بعد أن تم وضع لوحتي ضمن قسم المقتنيات واللوحات الثمينة التي يحويها هذا المتحف. زارها الكثير وكتب عنها الكثير، عن هيئة اللوحة وملامح الملكة وألوان ثيابها الملكية، حرصت على أن لا تكون لوحتي صورة فوتوغرافية للملكة أو ترجمة حرفية لسيرتها، ولكني أسقطت على اللوحة الصورة التي رأيتها في أحلامي للملكة.

للفنان لحسون غير لوحة الملكة أروى عدد آخر من الأعمال الفنية، منها على سبيل المثال لوحة «قصر الحجر» و«الأم» و«الأمهات» وغيرها من اللوحات التي أبرزت فنانا موهوبا مسكونا باليمن الأرض والتاريخ والحاضر.

ومن شيفيلد إلى ليفربول حيث التقت «الشرق الأوسط» وهبية محمد علي، التي تعمل طبيبة نساء في مستشفى النساء بليفربول، وهي التي بدأت الحديث بالقول: جاء أبي إلى هنا سنة 1960 من محافظة تعز في اليمن وعمل في مصنع طيلة أيام عمره. ونجحنا بفضل الله أولا ثم بفضل تشجيع أبي وإخوتي وأساتذتي، درست في الجامعة، والآن أعمل في واحد من أهم المستشفيات في بريطانيا.

* قلت لها: وماذا بعد؟

- قالت: كنت أشعر بالأسى عندما أنظر لحال الجالية اليمنية في بريطانيا، وعدم تمكن أبنائها من اقتحام المؤسسات التعليمية والاستفادة من التسهيلات الموجودة في البلد، على الرغم من أنها أقدم جالية في بريطانيا، وكنت أقارن بين ضخامة الإمكانات هنا وحظوظ اليمنيين في بلادهم، فدفعني ذلك للجد واغتنام الفرص الممكنة.

* قلت: هل تشعرين بنوع من التمييز في إطار العمل؟

- قالت: لا. لأنني متمسكة بهويتي العربية الإسلامية؟

* قلت: غريب.

- قالت: وما الغريب في ذلك؟.. هناك فكرة خاطئة. لن تستطيع الاندماج في المجتمع ما لم تبرز هويتك الثقافية حتى تكون معروفا بها في مجتمع يقبل تعدد الثقافات ويحترمها.

* قلت: هل تتعرضين للمضايقات في إطار العمل؟

- قالت: بشكل عام لا. أنا أعمل في وسط مهني ينتمي إلى الطبقة الوسطى المثقفة، وما نسمعه من حكايات عن معاداة الأجانب يكون عادة لدى طبقات المجتمع الشعبية، وليس عند الذين قطعوا أشواطا علمية أو وظيفية. ومع ذلك فنحن الذين نحدد الطريقة التي يتعامل بها الآخرون معنا. أذكر أنني دخلت مرة على مريضة، فوجئت بي، ولمست فيها نوعا من النفور مني، وأحسست أن السبب أنها وجدتني مختلفة. تألمت بالطبع، ولكن مكثت معها طول فترة وجودها في المستشفى، أقوم برعايتها على أكمل وجه. وعند خروجها من المستشفى ذكرت لي أنني عاملتها بطريقة أفضل بكثير من بقية الطاقم، وكانت في نهاية المطاف في غاية الامتنان لي.

* قلت: والإسلاموفوبيا؟

- قالت نحن مسؤولون عن جانب كبير منها، نحن نعطي الذين يتصيدون الأخطاء الفرصة مع الاعتراف بوجود عنصريين يمثلون أقلية صغيرة في المجتمع البريطاني.

* الجالية اليمنية والمطارات

* شيء طبيعي أن تتأثر كل جالية بالأحداث التي تجرى في بلدها الأصلي. ومن أكثر ما تأثرت به الجالية اليمنية في بريطانيا قصة عمر الفاروق عبد المطلب، الطالب النيجيري الذي استهدف طائرة خطوط الشمال في محاولة لتفجيرها فوق سماء ديترويت في الخامس والعشرين من ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي.

فعلى الفور صدر قرار بريطاني بإيقاف رحلات الطيران اليمني من وإلى بريطانيا، بحجة عدم وجود إجراءات أمنية كافية لدى الجانب اليمني، والحاجة إلى التوافق مع معايير السلامة الأوروبية، حسب رواية أخرى. المهم أن الكثير من اليمنيين الذين كانوا يسافرون على الخطوط اليمنية لم يعد بإمكانهم ذلك. ثم إن الإجراءات الأمنية المشددة التي يعانون منها في المطارات البريطانية توحي لهم بشيء من التمييز ضدهم.

شكى الكثير ممن رفضوا ذكر أسمائهم من ساعات طويلة يقفونها للتدقيق في أوراقهم وحقائبهم في مطارات هيثرو ومانشستر وبرمنغهام وغيرها من المطارات البريطانية. وعلى كل، فهذه كانت وقفة على أوضاع جالية عربية يقول المهتمون بشأن الهجرة إلى بريطانيا أنها أول جالية مسلمة دخلت بريطانيا، بكل ما في القصة من آلام وأحزان وإخفاقات ونجاحات.

قصة صاغها الإنسان اليمني بدمه وعرقه واغترابه الأزلي الذي تحدثت عنه المصادر التاريخية والدينية، وتحدثت عنه النقوش والرُقم الأثرية القديمة، هي مجرد تنويعات مختلفة لألحان جدهم القديم الشاعر امرئ القيس الذي رحل إلى بلاد القيصر طالبا نصرته في حربه لاستعادة ملك أبيه، فلما بعدت به الدار قال:

* بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه - وأيقن أنا لاحقان بقيصرا

* فقلت له لا تبك عينك إنما - نحاول ملكا أو نموت فنعذرا

* وفي طريق عودة امرئ القيس أحس بدنو أجله فقال مخاطبا حمامة ناحت بقربه، وهو يمر بجبل اسمه عسيب دفن إلى جواره فيما بعد:

* أجارتنا إن الخطوب تنوب - وإني مقيم ما أقام عسيب

* أيا جارة إنا غريبان ها هنا - وكل غريب للغريب نسيب * وبين أمل امرئ القيس في قصر القيصر وخذلان القيصر له تتسطر فصول التغريبة اليمانية على إيقاع جديد ولكن بتقاسيم متشابهة.

* جلسة «قات» في الهايد بارك

* على الرغم من أن القات عادة سيئة فإن اليمنيين في المهجر البريطاني أخذوا معهم أحلامهم وطموحاتهم وقاتهم كذلك إلى البلاد الجديدة التي أصبحت وطنهم الجديد.

يمارس كثير من أبناء الجالية مضغ القات يوم السبت في (مقايل) شخصية، أو في أماكن أعدت لأغراض التجمع وتجاذب أطراف الحديث، والخوض في المواضيع السياسية تماما، كما يفعلون في صنعاء أو غيرها من المدن اليمنية.

ولعل للقات أثره البالغ في أن أبناء الجالية اليمنية أكثر انكفاء على أنفسهم، حيث يجتمعون ببعضهم في الحفلات والمهرجانات دون أن تتهيأ فرصة للالتقاء بالآخر، سواء أكان هذا الآخر عربيا أم بريطانيا.

ولعل بريطانيا من بين البلدان الغربية القليلة (ربما هي الوحيدة) التي تتسامح في دخول القات عبر المطارات والمنافذ الرئيسية، على الرغم من مناقشة موضوع القات في البرلمان البريطاني عدة مرات دون أن يؤدي ذلك إلى حظر دخوله البلاد، وهو ما أدى إلى انتشار عادة مضغ القات بين أعداد متزايدة من اليمنيين داخل بريطانيا، حتى ممن ينتمون إلى ما يسمى بالجيل الثالث من أبناء أو أحفاد المهاجرين اليمنيين. وبالإضافة إلى أيام السبت فإن تناول القات يتم أيضا في حفلات الزواج وفي المناسبات الدينية والاجتماعية الأخرى.

وتعد إثيوبيا واليمن أهم بلدين يأتي منهما القات إلى بريطانيا بكميات كبيرة في أيام مختلفة من الأسبوع، وكانت شركة الخطوط الجوية اليمنية تنقل من صنعاء 400 كيلوغرام من القات إلى بريطانيا مرتين في الأسبوع، وفي رمضان تتضاعف الكمية.

أذكر أنني التقيت صدفة مصلح محمد قاسم، الذي كان يتناول الوريقات الخضراء في عصرية أحد أيام أغسطس (آب) في يوم سبت جميل على ضفة إحدى البحيرات الرائقة في الهايد بارك.

- يقول مصلح: آتي إلى هذا المكان في كثير من الأحيان عندما يكون الجو مناسبا، الجلسة هنا لها طعم آخر. وأضاف - ضاحكا - «الماء والخضرة والوجه الحسن والقات» كلها تمسح عنك عناء أسبوع كامل من الكد والتعب.

* قلت ولكن ألا تشعر بالحرج وأنت هنا في مكان عام؟

- قال: لا، أنا أفعل لي غصنين (أتناول غصنين) من القات، والذي يراني يظن أنني أمضغ العلك، ومع ذلك فأنا لا أتناول محظورا، حسب القوانين البريطانية.

* قلت: ماذا تفعل في لندن؟

- قال: أعمل في دكان لبيع المواد الغذائية، وأحيانا أعمل في الـ«تيك أواي» مطاعم الوجبات السريعة.

تمنيت له تخزينة (جلسة قات) هانئة وتركته لقاته ونظراته الشاردة.

وفي ليفربول التقيت علي سليم الذي يقول: القات هو «الخمر الحلال»، نحن لا نشرب الخمر، ولذلك فلا ضرر من تناول الورقات الخضراء ساعة من نهار، في يوم سبت للالتقاء بالأصدقاء، والتحدث فيما يهم أمور الجالية اليمنية. ويواصل علي، أنا لا أرى أن في القات مانعا، هو ليس مخدرا ولا ضارا بالصحة، ومن فوائده أنه يساعد على اختلاط الناس ويسهل التعارف فيما بينهم. وأنا عندما أتناول القات أبدأ بالدعاء: «اللهم اجعله علاجا للرأس ودواء للأضراس».

* قلت له من أين لك بهذا الدعاء؟

- قال (ضاحكا): هو دعاء يرويه أصحابنا؟

* قلت من أصحابكم يا شيخ؟

- قال ضاحكا: المخزنون (الذين يتناولون القات)، اسأل علي عبده.

والتفت إلى علي عبده الذي بادرني ضاحكا: كما نتداول أيضا القول الآخر: «القات قوت الصالحين».

غير أن أمل محسن تعارض بالقول: القات آفة لاحقت اليمنيين إلى داخل بريطانيا. ليس للقات أي فائدة، على العكس هو مضر بالصحة، ومهلك للمال، وباعث على التفكك الأسري. الأسر التي يمضغ فيها الأب القات، أسر لا تلقي بالا لرعاية الأطفال، ولا يهتم الرجل فيها بشؤون زوجته وأطفاله. الوقت الذي يقضيه رب الأسرة مع الأصدقاء هو من حق الزوجة والأولاد. كثير من حالات الطلاق وضياع الأسر كان باعثها الحقيقي هو انشغال الأب في مضغ القات مع الأصدقاء على حساب احتياجات الأسرة والأطفال. وتضيف أمل: وفوق ما تقدم من مساوئ القات، فإنه يمثل عادة غير حضارية، خاصة أن البعض يمشي في الشارع منتفخ الشدق، وربما الشدقين، غير آبه بنظرات الاستهجان من قبل المارة.