ربما لا تمثل الكهرباء جزءاً من أزمة الطاقة العالمية. لكن بالنظر للكم الهائل من الأجهزة والمعدات التي يمتلكها الواحد منا والتي تعمل على الطاقة الكهربائية، يظهر لنا مقدار الأهمية القصوى لهذا المصدر من مصادر الطاقة. وبالرغم من أن الكهرباء يمكن خلقها من مصادر شتى غير مرتهنة بالضرورة بالمولدات التي تعمل على الوقود الأحفوري، يظل تصور يوم واحد بلا طاقة كهربائية أمراً مخيفاً.
الحقيقة أن هناك ضغطاً رهيباً على موارد الطاقة الكهربائية. وهي مسألة نعيها نحن في المملكة بالذات. ومع تضافر هذا الضغط مع السمة (التجوالية) للآلات الكهربائية من هواتف محمولة وحواسيب دفترية ومشغلات موسيقى وكاميرات ومحددات مواقع وسواها. يبرز تساؤل حول الطريقة المثلى للاستغناء عن (الفيش) أو القابس الكهربائي. وينمو حلم بـ (اللاسلكية القصوى).. حيث يمكن الحصول على الكهرباء من الهواء.. على النحو ذاته الذي نحصل به على إشارة الاتصال اللاسلكي بالإنترنت.
الكهرباء موجودة في الأصل حولنا في الهواء وفي الأرض وفي أجسادنا ذاتها. وهي تعلن عن نفسها بين حين وآخر عبر تفريغات للشحنات تكون بسيطة أحياناً وتمثلها اللسعة الخفيفة التي تصيبنا حين نلمس جسماً معدنياً ما.. وتكون رهيبة أحياناً أخرى في شكل صواعق هائلة تشق الفراغ بين الأرض والسماء. هذه الصواعق بالذات طالما راود المهندسين حلم اصطيادها والإفادة منها. الصاعقة الواحدة تحمل في المعدل بليون فولت في ثلاثة آلاف أمبير، ما يساوي ثلاثة بلايين كيلو واط من الطاقة وهو ما يكفي لتشغيل مدينة كاملة طوال أشهر عدة. هذا مع صاعقو واحدة فكيف بالأربعة آلاف صاعقة التي يتم رصدها عبر الولايات المتحدة الأميركية كل يوم؟!
اصطياد الصواعق هو أمر بالغ الصعوبة لأنه يستحيل تقريبا تحديد النقطة من الأرض واللحظة التي سترب الصاعقة فيها. مما يعني ضياع كل طاقة الصاعقة في جوف الأرض. والسؤال المنطقي الذي يبرز بعد ذلك هو: كيف يمكننا نخلق الصواع اصطناعياً عبر توفير الظروف اللزمة لها؟ وهل يمكننا التحكم في مسار الصاعقة ومدى قوتها وتوجيهها للنقطة التي نحدد نحن؟
هذه التساؤلات تمثل صلب نظرية النقل اللاسلكي للطاقة الكهربائية. وهي مسألة يظهر مدى صعوبتها وتعقيدها الجمود الذ تعني منه منذ العقد الأول للقرن العشرين. حين توقف مشروع المهندس والمبتكر العبقري (نيكولا تِسلا) والخاص بتخليق الصواعق الصناعية والذي نتناوله بالتفصيل في الصفحات التالية.
ماذا تعني القدرة على بث الكهرباء لاسلكياً؟ تعني أنه لن توجد نقطة على الأرض خارج نطاق التغطية الكهربائية. وتعني أن العوائق التي تمثلها غياب البنى التحتية وأبراج الضغط العالي وأسلاك النقل والتي تحرم أناساً كثيرين من نعمة الكهرباء المستمرة.. ستصبح كلها من الماضي مثلما ألغت الهواتف الجوالة معاناتنا –أو كادت- مع الهواتف الثابتة.

لكن النقل اللاسلكي للطاقة سيفتح آفاقاً لمشاريع أكثر إثارة ربما لا نعيها تماماً اليوم. فالسيارات الكهربائية مثلاً لن تعود بطارياتها مجرد (عبء) يحد من سرعتها ومدى استخدامها ويجعلها منهزمة أمام سيارات (البنزين). على العكس.. فمع توفر الكهرباء في الهواء ستتزود هذه السيارات بالطاقة تلقائياً وبالمزيد منها على نحو يجعلها تصل لسرعات كبيرة وتستوعب حمولات أكبر وأكبر. الأمر ذاته يمكن تعميمه على كل وسائل النقل بما فيها الطائرات والمركبات الفضائية أيضاً!
ماذا بالنسبة لباقي الأجهزة والمعدات الإلكترونية؟ سيصبح (الشاحن) جزءاً من الماضي. نقص البطارية لن يحرمك من تصوير مقطع الفيديو المهم. ولن يقطع عليك مكالمتك المهمة.. كما لن بقطع عليك منامك بصوت إنذاره المزعج.
تطوير وسائل البث اللاسلكي للكهرباء ينتظر منها أن تغير وجه الحضارة على النحو ذاته الذي قامت به خطوط الشبكة الكهربائية (التقليدية) قبل عقود بالرغم من كل الصعوبات والتحديات التي تواجه تطبيقاتها وتعيق تقدم أبحاثها ودراساتها لتواكب التقدم المجنون الذي تتطور به حياتنا كل يوم.


نيكولا تِسلا: عبقري اللاسلكية المنسي

لاسم الأول الذي سيطرح نفسه عند البحث في مجال النقل اللاسلكي للطاقة الكهربائية هو (نيكولا تِسلا – Nicola Tesla) أحد عباقرة المخترعين في العصر الحديث والذي قدم للبشرية نحو 700 ابتكار وتصميم هندسي.* ولد (تِسلا) في صربيا عام 1856م، وهاجر إلى الولايات المتحدة وهو في الثامنة والعشرين. عند وصوله إلى نيويورك توجه نحو مكتب المخترع (توماس إديسون) الذي كان قد صار أسطورة حية بفضل ابتكاره المصباح الكهربائي. كان (تسلا) مزوداً بخطاب من أحد أصدقاء (إديسون) في أوروبا نصه “عزيزي توماس، أعرف رجلين عظيمين، أحدهما أنت، والثاني هو الماثل أمامك”. وبالرغم من ذلك لم يتفق الرجلان كثيراً وقادتهما عبقريتاهما المفرطتان للتنافر فاضطر تسلا للاستقالة ليكمل بمفرده أبحاثه في التيار المتردد (AC) الذي طرح كبديل للتيار المستمر (DC) الذي كان (أديسون) من أشد أنصاره. وما أن حصل على التمويل اللازم حتى قام يتنفيذ التصاميم المكتملة في عقله بدون أن ينفذ تجربة واحدة وبنتائج وافقت توقعاته بالضبط. وخلال شهرين من العام 1887 حصل (تسلا) على سبع براءات اختراع في نظامه لتوليد ونقل التيار المتردد الذي عد أهم ابتكار في زمنه منذ ظهور الهاتف. دخل (تسلا) في صراع دعائي ضد (إديسون) حول نوع التيار الذي يجدر أن تعتمده الحكومة الأمريكية، لكن نجاح (تسلا) في إضاءة المعرض العالمي بشيكاغو بتياره المتردد حسم مستقبل الكهرباء في أمريكا والعالم لصالحه.
انتقل اهتمام تسلا بالموجات عالية الذبذبة، وقاده ذلك لابتكار مسرع الذبذبات الذي يحمل اسمه. وهو الابتكار الذي قاده للقيام بتجارب البث الراديوي الأولى في الآن ذاته الذي كان شاب إيطالي اسمه (ماركوني) ينفذ فيه تجارب في ذات المجال. وبالرغم من أن (تسلا) قام بتقديم طلب براءة اختراع أمريكية للراديو قبل (ماركوني) بثلاث سنوات، إلا أن الفتى الإيطالي كان يحظى بدعم مالي واجتماعي أكبر. وبضغط من كبار المستثمرين في شركة (ماركوني) الناشئة غيّر مكتب البراءات الأمريكي رأيه وأعلن أن (ماركوني) هو الأجدر بنسبة الراديو إليه. وقد كان حصول ماركوني على جائزة (نوبل) عام 1909م مؤلماً جدا لـ (تسلا) الذي كان يتندر بأن منافسه يستخدم معدات حصل هو على براءة ابتكار 17 منها. واصل (تسلا) جهوده في البث اللاسلكي فقدم عام 1898 نموذجاً لقارب كأول جهاز في التاريخ يتم التحكم بحركته لاسلكياً. وعندما اقترح عليه البعض استغلال ابتكاره ذلك في أغراض عسكرية استشاط غضبا وطالب الجمهور بالتفكير في استخدامات منزلية لهذه (الخدم الآلية) مما يعتبره العديدون الإشارة الأولى لظهور فكرة (الروبوتات). بالرغم من أن (تسلا) كانت له مشاريع كبرى في مجالات استغلال الطاقة الكهربية في الصواعق وتصميم مصابيح (الفلورسنت) إلا أنه عانى الأمرين من تجاهل الإعلام له وجشع الممولين لتجاربه.
أُطلق اسم الـ (تسلا) على وحدة قياس الحث المغناطيسي تكريماً للرجل الذي مات عام 1943 في ذروة الحرب العالمية الثانية. وقد اختفت أوراقه البحثية الهامة من منزله عقب وفاته على نحو مريب أثار الشبهات حول انتماءاته السياسية لا سيما وأنه أعلن قبل وفاته عن قرب وصوله لاكتشاف ما أسماه (أشعة الموت) ما جعل أبحاثه موضع اهتمام أطراف الحرب آنذاك. وبالرغم من كل الجدل الذي تثيره شخصيته وابتكاراته، يظل (نيكولا تسلا) أحد أهم مبتكري القرن العشرين الذين أثرت جهودهم الهندسية في حياة ملايين الناس حول العالم.
الطاقة: آخر عقبة في سبيل اللاسلكية المطلقة
لن نتكلم مجدداً عن تفاصيل تقنيات الاتصال اللاسلكي. لكننا سنتطرق لإشكالية أخرى: فمهما كانت جودة التغطية في شبكة الاتصال، فإن المستخدم لابد عائد إلى (السلك) – سلك (الشاحن) هذه المرة. الحرية في التجوال بالهاتف تظل مقيدة بعمر بطارية الجهاز. والمبدأ يسري على كل منتجات التقنية الحديثة من آلات تصوير وحواسيب محمولة وحتى السيارات والقطارات السريعة التي تشغلّها الطاقة الكهربية.
وهكذا يبرز السؤال: أليس من سبيل للاستغناء عن شبكات الربط الكهربائية؟ ألا يمكن تداول الطاقة ذاتها.. لاسلكياً؟

هل المبدأ ممكن؟
قد يفكر البعض بأن نقل الكهرباء عبر الهواء سيؤدي إلى (صعق) الناس والموجودات عشوائياً! والواقع أن الفكرة ليست بهذه التراجيدية. فقواعد الفيزياء تفيد أساساً بأن الفراغ من حولنا مليء بالشحنات. والصواعق الطبيعية التي نشاهدها أثناء العواصف هي أمثلة شديدة الوضوح على فروق الجهد الهائلة التي يمكن تفريغها بين الأرض والسماء.
بعض هذه الشحنات يمكن التحكم به إلى حد ما. مصباح (الفلورسنت) مثلاً سيومض –دون وصله بمصدر تيار كهربائي- إذا ما تم تقريبه من هوائي البث اللاسلكي. ويمكن تجربة ذلك عبر إرسال إشارة الاستغاثة الشهيرة “SOS” وفق شيفرة (مورس – Morse). عندها سيومض الغاز كوسط ناقل داخل المصباح (الفلورسنت) بضوء أبيض متوافق وذبذبات هذه الإشارة.
(اللاسلكية) هي في صميم المبدأ الفيزيائي للنقل الكهربائي أصلاً. فلمولدات والماكنات الكهربية تتركب في داخلها من لفائف نحاسية غير متصلة لكنها تتناقل الطاقة فيما بينها عبر الفراغ وفق مبدأ (الحث – Induction) الكهرومغناطيسي. كما أن البث الراديوي ليس سوى صورة أخرى من صور الإشعاع الكهرومغناطيسي. والليزر بدوره ليس سوى تطبيق متقدم لنقل الطاقة عبر حزم الضوء الكثيفة.
المبدأ الأساسي إذاً قابل للتطبيق، لكن التحدي الأكبر الذي يعترضه هو في كيفية خلق (قنوات) لبث دفقات الطاقة هذه على نحو يضمن أن يتم استقبالها، والإفادة منها، على نحو فعال عبر المسافات. وهو تحدٍ يصور حجمه عمر التجارب المبذولة في هذه الصدد و الممتدة من بدايات القرن الماضي. تجارب لم يكتب لها الاكتمال تمت على يدي عظماء من قبيل (هيرتز – Hertz) و (ماكسويل - Maxwell) و الياباني (ياغي – Yagi). والأهم من كل أولئك (نيكولا تسلا – Tesla) الذي يعد حتى الآن ومنذ فاته قبل ستين عاماً مرجعاً حقيقياً لهذه التطبيقات.
(تسلا) وأبراج (واردينكليف)
بالرغم من الأثر البالغ العمق الذي خلفه (تسلا) في علوم وهندسة القرن العشرين، إلا أنه يعد كذلك أحد أقل العلماء حظاً. فهو لم يفز قط بأي جائزة نوبل بالرغم من أن أفكاره كانت سبباً في منح هذه الجائزة لآخرين جاؤوا بعده. كما أنه لم يحظ بين العامة بشهرة (إديسون) الطاغية مثلاً.. بالرغم من أنه قد تفوق عليه في الصراع الشهير بينهما على التيارين الكهربائيين الثابت (DC) والمتردد (AC).
كانت علاقة (تسلا) بالمال والممولين متعثرة دوماً. ما انعكس سلبياً على نجاح تجاربه. وبالرغم من أنه قد باع حقوق تياره الكهربائي المتردد لشركة (وستنغهاوس – Westinghouse) مقابل مليون دولار أواخر القرن التاسع عشر.. ما يمثل أضعاف هذا المبلغ اليوم، إلا أن جهوده لتطوير البث اللاسلكي للطاقة الكهربية قد أوقفتها في نهاية المطاف أسباب تمويلية!
النتائج الأولى لتجارب (تسلا) في هذا المجال كانت واعدة. ففي منطقة اختبارات أنشأها بمدينة (كولورادو سبرنغز)، نجح (تسلا) عام 1899 في نقل مائة مليون فولت من الكهرباء عالية التردد لا سلكياً عبر مسافة 26 ميلاً لتضيئ مصفوفة من مائتي مصباح وتشغل محركاً كهربائياً. وتظهر صورة شهيرة (تسلا) في تلك الفترة ممسكاً بين يديه بمصباح كهربائي مضيء وغير موصول بمصدر طاقة مرئي.
هذه النجاحات الأولية حرضت عدداً من المستثمرين الطموحين، وعلى رأسهم المصرفي الشهير (P.G. Morgan)، على تبني مشروع الطاقة اللاسلكية وتمويل أبحاث وتجارب (تسلا). على إثر ذلك، أقيمت عام 1901 منشأة ضخمة قرب (نيويورك) لتجارب البث اللاسلكي توجت ببرج مهيب عرف باسم (برج تسلا) والذي عرف أيضاً ببرج (واردينكليف – Wardenclyffe).
البرج الذي ارتفع لمائة وسبعة وثمانين قدماً كان مأوى لعدد كبير من لفات الأسلاك والموصلات والمولدات اللازمة لهذا البث الكهربي الفريد. أسفل البرج الخشبي مباشرة كان هناك عمود يمتد في الأرض لعمق 120 قدماً حيث دفن (تسلا) مصفوفة من الأنابيب الحديدية لخلق قطب أرضي لهذا المولد عالي التردد.

يعتقد الكثيرون بأن برج (واردينكليف) كان شطحة عبقرية سبقت عصرها بكثير. يبدو أن (تسلا) الذي نجح إلى حين في كسب ثقة المستثمرين الطامحين لجني الثروات عبر احتكار مولدات الطاقة اللاسلكية الموعودة، يبدو أنه قد خذل ثقتهم خيراً بسبب تشعب أفكاره وطليعيتها، ما دفعهم لسحب التمويل لاعتقادهم بفشل (تسلا) في إدارة المشروع. الواقع أن (تسلا) كان يطمح لما هو أكثر بكثير من –مجرد- تزويد الماكنات عبر القارات بالطاقة الكهربائية المولدة على بعد أميال وأميال. كتب (تسلا) عام 1907: “عند الحديث عن إيقاد حتى أصغر فتيل، فإننا يجب أن نعي بأن سطح الكوكب بأسره، مائتا مليون ميل مربع، يجب أن تتم كهربتها وتحويلها لمصدر ناقل للطاقة. وهو ما يتطلب تطبيقات هندسية خارجة عن المألوف، أكثر إبهاراً من تمرير التيار عبر الجسم البشري إضاءة مجموعة من المصابيح” – التجربة التي نفذها (تسلا) على نفسه ليبرهن على سلامة التيار المتردد-.
كي نفهم كدى تقدم (تسلا) على زمانه، نقرأ ما كتبه عام 1908 في وصف هذا مشروع (واردينكليف) تحديداً بنشرة Wireless Telegraphy & Telephony: “عند اكتماله، فسيغدو من الممكن لرجل أعمال في نيويورك أن يملي رسالته شفهياً لتظهر في الحال مطبوعة أما مساعده في لندن أو أي مكان آخر. سيكون بوسعه أن يتصل من مكتبه ويتصل بأي (مقسم) هاتف في العالم بدون أن يضطر خلال المكالمة لتبديل أجهزته أو خطوط اتصاله. آلة صغير لا تزيد في الحجم عن ساعة المعصم ستمكن حاملها بعد نجاح (المشروع) من رؤية وسماع الموسيقى والأغاني والخطب السياسية والمحاضرات وسواها بغض النظر عن المسافة عن موقع الحدث الأصلي.
وعلى النحو ذاته سيتم تبادل الصور والرسمات والنصوص المكتوبة. وستتم إدارة ملايين من هذه المعدات عبر واحد فقط من أمثال هذا البرج المنشود. الأهم من ذلك كله هو نقل الطاقة عبر الأثير، بلا أسلاك. هذه المؤشرات تدلنا على أن الفن اللاسلكي يعدنا باحتمالات أكثر من أي ابتكار أو اكتشاف سابق. وإذا كتب لنا التوفيق فيما نقوم به فإن السنوات القادمة ستكون حافلة بالابتكارات المذهلة”.
مع الأسف فإن التوفيق لم يكتب لـ (تسلا) في محاولته تلك. ومشروع برجه لم يعد للحياة من بعده إلى يومنا هذا. لكن المتأمل في أفكار هذا الرجل يذهل من مقدار الطموح الذي كان يتمتع به في فجر القرن العشرين والنحو الذي يصف به تطبيقات معروفة الآن فقط.. في بدايات القرن الحادي والعشرين.
ما بعد (تسلا)
يمكن القول بأن الأبحاث في هذا المجال قد شهدت بعد (نيكولا تسلا)، فترة جمود غريبة يمكن إرجاعها لمبررات اقتصادية ولطبيعة سوق التكنولوجيا خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
لكن انتعاش أسواق الإلكترونيات الموجهة للمستهلك الفرد وتزامن ذلك مع ثورة الاتصالات مطلع الألفية الثالثة، كلها قد عادت بمسألة الطاقة اللاسلكية للواجهة مرة أخرى. إلا أننا ينبغي أن نعي أن هذه الاستفاقة لأبحاث الكهرباء اللاسلكية ليست بحجم طموحات (تسلا) الهائلة وإنما هي موجهة بالكاد للمستهلك العادي وأجهزته البسيطة مثل آلات التصوير الرقمية والهواتف الجوالة ومشغلات الملفات الموسيقية والحواسيب المحمولة وسواها.
أكثر التطبيقات (تجارية) في هذا الصدد مثلتها مسطحات صغيرة مزودة بشرائح إلكترونية دقيقة تعمل كمستشعرات وظيفتها التنبه –لاسلكياً- لوجود شرائح نظيرة لها تتم إضافتها للجهاز المراد تزويده بالطاقة لاسلكياً.
مسطحات الطاقة هذه ظهرت بين عامي 2001 و2003 عبر عدة شركات كـ MobileWise الأميركية و SplashPower البريطانية. طريقة استخدام هذه الشواحن اللاسلكية بالغة السهولة. إذ يكفي وضع الهاتف الجوال مثلاً فوق أحدها لتبدأ بطاريته بالشحن. وبالتالي فإنه يمكن نظرياً اعتبار أي سطح مستوٍ كالطاولات وأسطح الثلاجات وسواها بمثابة أوساط شحن بوجود هذه الأجهزة الجديدة عليها.
المبدأ الهندسي بسيط بدوره. فالشرائح الإلكترونية المخبوءة داخل الأجهزة الكهربائية التي ستعتمد هذه التقنية سوف تتلقى، ما أن توضع فوق أي من أسطح الطاقة هذه، شحنة كهربائية بسيطة وإشارة إلكترونية من الشريحة المقابلة الموجودة داخل السطح الشاحن ذاته. هذه الشريحة الثانية سوف تتأكد من توافر القطبية الكهربائية اللازمة. وفي حال انعدامها بسبب عدم ملامسة الجهاز لسطح المكتب مثلاً أو وجود حائل مثل يد المستخدم فوق السطح الشاحن، فإن عملية الشحن لن تتم. لكن لو توافرت القطبية اللازمة فستقوم هذه الشريحة بتحديد نوعية فرق الجهد الذي يحتاجه الجهاز المراد شحنه اعتماداً على نوع بطاريته وتبدأ بتزويده بالطاقة اللازمة.

السؤال الذي يطرح نفسه بداهة هو: من أين تحصل أسطح الطاقة هذه على الطاقة الشاحنة؟ والجواب المخيب للآمال هو: من القابس الكهربائي في الجدار عبر سلك يصل بينه وبين السطح الشاحن!! فالحقيقة إذاً هي أن هذه الأسطح ليست سوى شاحنات مسطحة الشكل. والفرق الرئيسي بينها وبين أجهزة الشحن العادية هو أنها تحتاج فقط لملامسة الجسم الخارجي لٍلجهاز المشحون عوضاً عن الارتباط بتركيبه الداخلي عبر (سلك) ما. ما يعطي الانطباع (اللاسلكي) للأمر. وهو انطباع خادع كما يبدو لنا هاهنا.
على كل فالأمر ليس بهذا السوء مع افتراض التسويق عريض النطاق لهذه التقنية. فلو تم تزويد جميع قطع الأثاث في المستقبل بشرائح شاحنة مثل هذه، فإنك يسعك أن تترك جوالك على أي طاولة لترجع إليه فتجده مشحوناً.. المهم هنا أن تجد مصدراً للطاقة توصل به قابس الطاولة ذاتها! هذه التقنيات أيضاً تتميز بكونها مأمونة لأن فروق الجهد والمجالات الكهرومغناطيسية الصادرة عنها آمنة بالنسبة للجسم البشري. كما يتوقع منها أن تكون رخيصة ومقاومة للماء ما يواءم طبيعتها كمنتجات استهلاكية. كما أن تعديل الأجهزة الإلكترونية الحالية لتستفيد من إمكانات هذه الأسطح الشاحنة سوف لن يتطلب أكثر من إضافة شريحة أخرى لداراتها ما لن يزيد أكثر من الدولار الواحد لسعر تصنيع الوحدة منها. إلا أن هذا كله لا يمثل سوى نفحة من حلم (تسلا) العظيم. فأين هذه التقنيات من تسيير القطارات وحتى المركبات الطائرة في رحلات بين الأرض والقمر؟
هناك على كل مساع للارتقاء بهذه المحاولات المتواضعة لتوفير الطاقة اللاسلكية. خلال شهر نوفمبر الماضي أعلن قسم الفيزياء التابع لمعهد (ماساتشوستس) للتقنية عن دراسات يقودها الدكتور (مارين سولياشيتش – Soljacic) لتطوير تقنيات بث الطاقة عبر مسافات تصل لعدة أمتار. الدكتور (سولياشيتش) كان دافعه لمواجهة هذه المعضلة هو صوت منبه البطارية الفارغة المنبعث من هاتفه الجوال الذي طالما أيقظه من نومه!
النمط الذي سيتم اعتماده هنا قائم على مبدأ الحث الكهرومغناطيسي الذي يشكل أساس عمل المولدات الكهربائية التقليدية. وفي حين أن لفات النواقل داخل المولدات الكهربائية هي قريبة جداً من بعضها البعض بحيث تبدو وكأنها متلامسة ويحصل تبادل الموجات الكهرومغناطيسية بينها تلقائياً، فإن الخدعة تكمن في توسيع مدى هذا الحث ليمتد عبر حجرة أو قاعة كاملة. كما أن النطاق الكهرومغناطيسي المراد خلقه عبر الحجرة ينبغي أن يكون مضبوطاً بحيث يتم التقاطه من قبل الأجهزة المعدة فقط للتعامل مع هذه الطريقة الجديدة للشحن، وإلا يكون إشعاعياً بحيث يؤثر على عمل باقي الأجهزة الإلكترونية أو يشكل خطراً على الصحة العامة.
مبدأ الحث أو الرنين هو مبدأ فيزيائي معروف وغير مقصور على الهندسة الكهربائية، بل يمكن مشاهدة آثره من حولنا. والمثال الأكثر شيوعاً لشرح ظاهرة الرنين هو في الآلات الموسيقية الوترية. فعند العزف على وتر آلة موسيقية ما فإن أوتار الآلات الأخرى في الجوار والمضبوطة على ذبذبتها سوف تبدأ في الاهتزاز وإصدار ذات النغمات هي الأخرى دون أن يعبث بها أحد. المثال يمكن تطبيقه أيضاً على أكواب الماء المتجوارة أيضاً. وبنقل الفكرة لسياق البث اللاسلكي للطاقة، فإننا يمكننا أن نتخيل عدة أجهزة مضبوصة على نفس (نغمة) الحث الكهرومغناطيسي يشحن بعضها بعضاً عبر مساحة معينة من الفراغ.
أمثلة الأجهزة التي توظف الموجات الكهرومغناطيسية موجودة في كل مكان من حولنا وتشمل موجات الراديو والأشعة السينية (أشعة إكس) والأشعة تحت الحمراء المستخدمة في أجهزة التحكم عن بعد. لكن هذه الأجهزة جميعها سوف لن تكون مفيدة لهذا التطبيق بالذات لأن موجاتها غير موجهة بل هي مبعثرة في كل الاتجاهات مما يضعف من مقدار الطاقة المنقولة بواسطتها كلما زادت المسافة وينفي فائدتها كوسط شاحن. وهو ما يعود بالفريق العلمي بقيادة الدكتور (سولياشيتش) لفكرة استغلال الموجات غير الراديوية.
نقل الطاقة عبر الموجات غير الإشعاعية هي فكرة معروفة جيداً ضمن أساسيات قوانين الفيزياء، لكنها لم تطبق قبلاً وهو ما يمثل نقطة تفوق فريق الدكتور (سولياشيتش). ولأنها المرة الأولى التي يتم توظيف هذه الأفكار فيها على نحو تطبيقي فإن هناك المثير من نقاط الغموض التي تكتنف المشروع الذي لا يعدو إلى الآن مجموعة من الدراسات وعمليات المحاكاة (Simulations) المنفذة عبر برامج الحاسب الآلي. هذه المحاكيات والمعادلات البحتة تبشر بنجاح الفكرة مبدئياً. ويتوقع في حال نجاح تصنيع نماذج لشاحنات الطاقة هذه أن يتم تنفيذ شبكات ربط الطاقة في المنازل على النحو مثله الذي نستخدم به شبكات الاتصال اللاسلكي بالإنترنت.. فيكون هناك (نقطة) بث لكل حجرة مثلاً.